منذ أيام قليلة أعلنت مكتبة الساقي العريقة في لندن، التي تعتبر من أكبر المكتبات العربية في أوروبا وتزود العرب والباحثين من غير العرب بما يحتاجونه من كتب أدبية أو علمية، من أجل المتعة والمعرفة، أنها بصدد إغلاق أبوابها نهائيا، في نهاية هذا العام، بينما ستستمر دار الساقي المختصة بنشر الكتب، سواء بالعربية أو الإنكليزية في عطائها المعتاد.
طبعا قرار مثل هذا، يشكل ضربة كبيرة للكتب ومنافذ بيعها في بريطانيا، خاصة أن لا مكتبات كثيرة هناك، ولا يوجد كثيرون يتحملون عبء تجارة الكتب في زمن سطت فيه التكنولوجيا الرقمية على فلسفة القراءة ومنطقها، ومؤكد تناقص عدد القراء عن الأزمنة السابقة، لكن أيضا يوجد قراء ما يزالون.
ولو عدنا بالتاريخ لأزمنة بعيدة وقريبة حتى، سنجد مكتبات عديدة أحرقت وتراثا ذا قيمة كبيرة، تم تدميره في بقع كثيرة من العالم، لكن الحضارات لا تنتهي هكذا، إنها ما تلبث أن تنتفض، وتبدأ ممارسة ترقيتها للشعوب، والكتب، بلا شك من أدوات التحضر العظيمة مهما تغير الزمن.
نهاية مكتبة الساقي تذكرني بنهايات عديدة أعرفها لمكتبات كانت منارات، وخبا ضؤوها، وأذكر مكتبة العامودي في مدينة بورتسودان، التي كنا نقف طوابير أمامها في انتظار كتاب «المغامرون الخمسة» كل شهر، تلك المغامرات الطفولية الجاذبة التي كان يكتبها المصري محمود سالم، وتعلم جيلنا حب القراءة من متابعتها، ومكتبة الفكر المختصة بسائر أنواع المعرفة في الآداب والفنون، وفيها حتى المجلدات الكبيرة، والأعمال الكاملة للشعراء والكتاب، وكانت توجد أكشاك صغيرة في مواقف باصات الأحياء، عبارة عن مكتبات مصغرة دائما تجد فيها ما تريده، باختصار كانت أرواح الكتب موجودة ومحلقة حولنا باستمرار، ثم تقدم الزمن وماتت تلك المكتبات كلها، بعضها تحول إلى مطاعم ومقاه، وبعضها لتجارة الملابس والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وبعضها لا أعرف ما حلّ به، لكن في المقابل ستجد مكتبات أخرى نبتت في بقع أخرى، لن تكون في غنى الأولى، ولا بشاشتها، لكن قد تفي بالغرض.
أيضا يمكن بسهولة ملاحظة تقليد المشاركة، الذي بات منتشرا، ذلك التقليد الذي لا يلغي وجود الكتب في المكتبات ولا يطردها تماما، وفي الوقت نفسه يستضيف تجارة أخرى مثل تجارة الإلكترونيات من حواسيب وهواتف نقالة، وتجارة القرطاسية من أقلام ودفاتر وحقائب مدرسية وغيرها، إنها تبدو لي التزاما أخلاقيا تجاه استخدام اسم مكتبة ليس إلا، فالكتب في معظم الحالات لا تتجدد هنا باستمرار، ولا تواكب النمو المذهل في حرفة الكتابة، والنشر، كما أنها غالبا تحتل رفوفا بعيدة وخلفية، لا تلفت النظر، وطبعا يوجد استثناء، فمكتبة جرير المعروفة بفروعها الكثيرة في الخليج، التي تبيع كل شيء من الكتب إلى خزائن الحديد والخشب، تضع الكتب في مواضع لائقة، ولافتة، ويوجد دائما موظفون مختصون يرشدون الزبائن إلى ما يبحثون عنه من كتب.
أيضا مكتبة كينوكينيا في مول دبي، إنها مكتبة نستطيع أن نفخر بها بصدق، فقد جعلت لكل كاتب مهم، رفا خاصا به، فلا يتوه من يبحث عن اسمه، وسط تلك التجارة العظيمة. ولو تتبعنا هذا التقليد، أي تقليد المشاركة، نجده أيضا في معارض الكتب التي تقام سنويا في كل البلاد العربية تقريبا، وتعتبر مواسم زاهية للتزود بالجديد المعرفي، وأيضا مواسم أعراس للمؤلفين، يوقعون فيها إصداراتهم لجمهور قد يكون مفرحا، وقد يكون محبطا، والتي لم تعد بيوتا مستقلة للكتب، لكن تشاركها فيها عناصر تجارية تشمل أشياء لا تقترب من الكتب والكتابة، أو الثقافة عموما، أشياء مثل أدوات الرياضة، وتسلق الجبال، وخرائط البحث، وأيضا الهواتف والكومبيوترات، التي أصبحت أكثر سلع العصر تداولا. لقد لفت نظري، حسبما قرأت، في حيثيات إغلاق مكتبة الساقي، فقرة تتحدث عن عدم وجود إنتاج جيد لتوزيعه، هذه الفقرة إن كانت صحيحة، فهي متسرعة بلا شك.
ففي أي زمن حتى أزمنة التنوير الكبرى، يوجد إنتاج جيد وإنتاج رديء، وحتى الإنتاج الرديء هناك من يعتبرونه جيدا، المسألة تخضع في النهاية لذوق المتلقي وثقافته كما كررنا عشرات المرات، والمكتبات توزع الكتب دون أي تدخل في مستواها ونكهتها، والقارئ حين لا يعجبه كتاب، لن يلوم الموزع، لكن غالبا يلوم مؤلفه وناشره أحيانا، ونرى ونحن نتابع الكتب وعرضها ونقدها، عشرات الكتب التي لا تحوي شيئا تقريبا، تمجد، وتحقق مبيعات كبرى، بينما أخرى، فيها كل زهو الكتابة وجنونها، تضيع بلا كلمة غزل واحدة. سأقبل ما قيل عن غلاء الكتب والأحوال الاقتصادية المتردية في كل مكان مع التحفظ على مسألة عدم وجود الإنتاج الجيد.
نحن إذن بإغلاق مكتبة الساقي، إزاء خسارة جديدة تضاف لخسارات عديدة في موضوع المكتبات، وكنت مرة زرت مكتبة أثر في الدمام التي أنشأها الصديق الشاعر والناشر عبد الله فهد، وتزودت منها بكتب عدة كنت أحتاجها، ومن شدة ما بدت لي من صحة جيدة فيها، وقوة في احتضانها للكتب، لم أفكر أبدا، أنها ستذهب ذات يوم، لكنها اختفت أيضا ولا أعرف إن كان سيعاد إحياؤها أم لا؟ وكما قلت في بداية حديثي، قد تموت مكتبة ما، وتنبت على أطلالها مكتبة أخرى، لا أحد يستطيع التكهن.
عندي ملاحظة أخيرة عن سلوك إلكتروني قد يكون يساهم في موت المكتبات أكثر من غيره من العوامل، وهو نشوء مواقع كثيرة جدا لبيع الكتب، ما على المتسوق سوى الطلب منها، والدفع إلكترونيا حتى يصله الكتاب حتى بيته، مثله مثل أي سلعة أخرى، وبالطبع لا يوجد هنا محل لتأجيره في موقع جيد، ولا مصاريف لموظفين يخدمون، ولا هموم كبرى. لذلك لن نلوم أي مكتبة إذا أغلقت أبوابها، ولن يكون الحديث إلا بعض المرارة والأسى واستحضار ذكرياتنا مع المكتبات القديمة.
كاتب سوداني
نعم انه خبر مؤسف عندما تُغلق مكتبة عربية كبيرة و معروفة في مدينة حيوية تقع في قلب العالم فيها جالية عربية كبيرة وقديمة . فمنذ الثمانينات و في كل زيارة لي الى لندن كنت أعود محملة بكتب من مكتبة الساقي . وهنا ايضا في مونتريال عندنا (مكتبة الشرق الأوسط ) التي أنا من زبائنها القُدامى والتي هي في خدمة الجالية العربية منذ أكثر من ثلاث عقود ، لكن إحتمال كبير قد تغلق أبوابها بسبب الحالة الصحية لمالكها ومديرها في نفس الوقت . أيضا لاحظت هنا أن الكثير من مكتبات بيع الكتب الأجنبية قد أُغلقت أبوابها والسبب هو كما ذكرت حضرتك في المقال سهولة الشراء من المواقع الألكترونية التي هي وبأسعارها المنخفضة قد قضت على أصحاب المكتبات الصغيرة الذي عليه أن يعطي إيجار المبنى وراتب العاملين فيها ومصاريف أخرى إضافية مع الضرائب الحكومية إضافة الى الجهد اليومي والمتابعة المستمرة .
لكن بالنسبة لي فأنا من الجيل الذي مازال يُقدر ويحترم المكتبات ، وهي نزهتي المفضلة وأجد فيها متعة كبيرة في البحث والتنقيب بين الكتب سواء أن كانت للشراء أم للإستعارة .
تحياتي وتقديري للأستاذ د. أمير تاج السر .
التاريخ لاينسي ولا يمكن إزالته بالرغم من الظروف المناخية للزمن…. يقول المثل…. الماعنده قديم ماعنده جديد…
المكتبه التقليديه هي الأساس، مع التطور التقني في المنظومة الثقافيه والوسائط بات من السهل الوصول الي الأثرياء… مثلا الPDF.. يمكن إنزال اي كتاب.. وانا عندي مكتبه الكترونيه من هذه المكتبات Pdf… اذكر يمتلك أجدادنا اول مكتبه في مدينة عطبره، وهي مكتبة دبوره…
تصحيح.. الوصول الي الكتب وليس الوصول الي الأثرياء…