تصاعدت حدة الصراع بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، على خلفية إقرار البرلمان الاتحادي الموازنة المالية، إذ اعتبر الساسة الكرد أن هناك انتهاكا لحقوقهم، وقد تم فرض فقرات تهدد «استقلالهم الاقتصادي» الذي كانوا يتمسكون به، باعتباره المحور الأساس الذي سيمكنهم مستقبلا من إعلان استقلالهم وإقامة وطنهم القومي.
لقد تم إقرار الموازنة الثلاثية للسنوات (2023، 2024، 2025) في سابقة لم تعرفها البرلمانات العراقية منذ 2005، وقد استاء النواب الكرد من قرارت هذه الموازنة، لأنهم وجدوا فيها: «الكثير من القيود غير المسبوقة على إقليم كردستان». قيود تمثلت في إصرار الحكومة الاتحادية على أن تأخذ دورها الذي رسمه الدستور بعد أن تهاونت فيه الحكومات السابقة لأسباب سياسية.
النتيجة كانت مطالبة حكومة محمد شياع السوداني بحقوق المركز المالية من جبايات الإقليم من الضرائب والجمارك، التي يجب أن تسلم للخزينة المركزية بالإضافة إلى الالتزام بتسليم الحصة النفطية المتفق عليها بين أربيل وبغداد والمتمثلة بـ400 ألف برميل يوميا ليتم تصديرها عبر شركة تصدير المنتجات النفطية العراقية (سومو)، وعندها سيتم دفع حصة الإقليم من الموازنة على شكل دفعات ربع سنوية، أي سيتم الحصول على مستحقات الخزينة المركزية أولا، ثم يتم منح حكومة الإقليم حصتها من الموازنة، وهو السياق المتبع مع باقي الحكومات المحلية في المحافظات ليكون هنالك عدل في التعامل الحكومي وفي توزيع الثروات الوطنية.
يبدو أن حكومة السوداني تحاول اللعب على وتر الخلافات الداخلية بين الحزبين الكرديين الكبيرين للحصول على مكتسبات اقتصادية وسياسية تضعف الإقليم
لكن هذا الحال من وجهة نظر الحزبين الكرديين سيضع كل مفاتيح السياسات المالية في «السلة الاتحادية» ما يعني وضع الإقليم في زاوية حرجة ومعقدة في ظل لائحة متطلبات واشتراطات تضعف قوة فيدراليته التي اقتربت من الكونفدرالية، أو الاستقلال غير المعلن، إذ سيطال أحد أهم أعمدة بنائها المتمثل بالاستقلال الاقتصادي والتصرف المطلق بالثروة النفطية هزة قوية ستؤثر في وجود الإقليم شبه المستقل، وإعادة الأوضاع إلى نصابها الفيدرالي الدستوري.
حكومة إقليم كردستان أصدرت بيانا رسميا طعنت فيه بقرارات البرلمان الاتحادي، وذكّرت حكومة السوداني بالاتفاقات السياسية التي تمت بين الإطار التنسيقي والكرد لتمرير تشكيل حكومة السوداني، بعد أن قدّم قادة الإطار التنسيقي وعودا كثيرة للكرد بينها إعادة انتشار قوات البيشمركة في كركوك والمناطق المتنازع عليها، وحل مشاكل الموازنة المتكررة بين أربيل وبغداد. وجاء في بيان حكومة الإقليم: «أن التغييرات التي أدخلها بعض أعضاء اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي بمشروع قانون الموازنة العامة بتاريخ 25 أيار/مايو 2023 ضد إقليم كردستان، هي تغييرات غير دستورية وتتنافى بوضوح مع الاتفاق الموقّع بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية، وكذلك تشكّل مخالفة لمبادئ اتفاق حكومة إدارة الدولة وتتناقض مع جوهر المنهاج الوزاري الذي صوّت عليه مجلس النواب. إننا في حكومة الإقليم لن نقبل على الإطلاق بهذا الظلم والانتهاك الذي يطال حقوق شعب كردستان، ولن نلتزم بأي قرار خارج نطاق الاتفاق الذي وُقّع مع حكومة السيد محمد شياع السوداني». من جانب آخر وجهت حكومة السوداني ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا ضربات موجعة للإقليم، على أثر النزاع والمشادات والاشتباكات التي شهدها برلمان الإقليم في آخر جلساته، عندما وقع اشتباك بين رئيسة البرلمان التي رفعت الجلسة بأوامر من حزبها الاتحاد الوطني الكردستاني، بينما أصر نائبها على تمديد الجلسة بأوامر من حزبه الديمقراطي الكردستاني، وقد قامت النائبة سروة عبد الواحد وآخرون بتقديم دعوى للمحكمة الاتحادية العليا يطعنون بها بشرعية برلمان الإقليم، الذي من المفترض أن تنتهي دورته البرلمانية في 6/11/2022 وفقا للتوقيتات الدستورية، إلا أن برلمان الإقليم مدد لنفسه في خرق دستوري واضح لدورة خامسة، من دون إجراء انتخابات سنة 2022، بحجة عدم الوصول إلى اتفاق بشأن قانون انتخابي جديد وحجج واهية أخرى للتغطية على الفشل السياسي في الإقليم. وبعد دراسة الدعوى المقدمة وما تحويه من أدلة قانونية قررت المحكمة الاتحادية العليا عدم دستورية تمديد برلمان إقليم كردستان لنفسه لأنه يخالف نصوص الدستور التي أشارت إلى أن مدة الدورة البرلمانية أربع سنوات، وكذلك المادة 51 من قانون برلمان كردستان العراق لسنة 1992 التي نصت على أن مدة الدورة البرلمانية أربع سنوات، تبدأ من الجلسة الأولى وتنتهي بآخر جلسة له في السنة الرابعة. وعليه قررت المحكمة الاتحادية العليا عدم دستورية التمديد، واعتبر كل ما صدر عن برلمان الإقليم بعد المدة القانونية لعمر البرلمان باطلة من الناحية الدستورية، وأن البرلمان الموجود حاليا غير دستوري، وأن حكومة الإقليم هي حكومة تصريف أعمال منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2022 وأن كل قراراتها طوال هذه المدة لاغية لأنها غير دستورية، لذلك علا صراخ قادة الإقليم ولعبوا على الأوراق الإشكالية القديمة نفسها، إذ صرح رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور البارزاني يوم 5 تموز/يوليو الجاري في جلسة حوارية أجراها، مع مواطنين من محافظات الإقليم، قائلا: إن «كركوك قلب كردستان، وإنّ ملا مصطفى البارزاني ضحى بثورة من أجل كركوك، ولم يكن مستعداً للاعتراف بأنها ليست جزءاً من كردستان». وأشار البارزاني إلى تمسك الإقليم بمحافظة كركوك، التي وصفها بأنها «قلب كردستان وجزء لا يتجزأ منها»، فيما أكد أن بلدة سنجار، التي تقع في محافظة نينوى وتخضع لسيطرة مسلحي حزب العمال الكردستاني، تابعة لكردستان، لكنها «محتلة». وتابع مسرور البارزاني قائلا: «كل أهالي كركوك من كرد وتركمان وقوميات أخرى يقضون حياتهم الآن تحت سلطة استبدادية، لاسيما الفلاحين الكرد، وأنا مطلع على أوضاعهم، وقد تواصلت عدة مرات مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في هذا الشأن، وطلبت منه حل هذه المشكلة، حيث يتم استخدام القوة وإسكان أشخاص مكان الأهالي الأصليين»، مضيفا: «رئيس الوزراء وعدني بالتحقيق في القضية وتقديم المتهمين للعدالة، ونحن ننتظر الإجراءات، وأود التأكيد على أنّه ما دمنا هنا فلن نتخلى عن كركوك». وفي هذا الخضم يبدو أن المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بتطبيع وضع محافظة كركوك المتنازع عليها بين بغداد وأربيل قد ماتت ودفنت، ولن تنجح مساعي الكرد في إحيائها بعدما فرضت حكومة حيدر العبادي سياسة الأمر الواقع، بعد فشل استفتاء انفصال كردستان في أيلول/سبتمر 2017، ودخول قوات الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي إلى محافظة كركوك، والسيطرة عليها هي والمناطق المتنازع عليها، بعد أن تم إخراج قوات البيشمركة منها، لكن تبقى ورقة كركوك والمناطق المتنازع عليها ورقة ضغط يلوح بها الكرد بوجه بغداد كلما تصاعدت أزمة جديدة بين الطرفين.
وقد كتب الصحافي الكردي سامان نوح متابعا الأزمة الكردية الأخيرة قائلا: «ما فرض من قيود، وما وقع من انتكاسات، لم يكن بتخطيط من القادة الشيعة الكبار، ولا بفطنة نوابهم، ولا بضبط إيقاعي من الجارة إيران. ما حصل سببه الرئيسي التصارع الكردي وتغليب المصلحة الحزبية العليا والدنيا على المصلحة العامة العليا، وتغليب رؤية الامتيازات على رؤية المؤسسات، ورفع سوق شركات الأحزاب فوق السوق الوطني الحر، وتقريب الأكثر ولاءا في المؤسسات على الأصلح والأكثر حنكة ونفعا وعطاء… وسياسة تغليب اللاحكومة واللابرلمان واللاديمقراطية واللاقانون واللاعدل، على سياسة المنظومة المؤسساتية الراسخة وأسس البناء الفيدرالي القوي القويم»
ويبدو أن حكومة محمد شياع السوداني تحاول اللعب على وتر الخلافات الداخلية بين الحزبين الكرديين الكبيرين للحصول على مكتسبات اقتصادية وسياسية تضعف الإقليم وتقوي الحكومة المركزية فهل تنجح في مسعاها؟
*كاتب عراقي