إذا لم تكن مفاجئة سلسلة مواقف دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا، أو خيارات بعض قيادات الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، في الانحياز إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي والتغطية على/ أو التواطؤ مع حرب الإبادة ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ فإنّ سلسلة أخرى من المواقف ركنت إليها دول آسيوية، في طليعتها الهند بقيادة رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي، تنطوي على مفاجأة من طراز ما، رغم أنها تدخل في سيرورة متلاحقة سبقت عملية «طوفان الأقصى» والتوحش الإسرائيلي ضدّ القطاع.
صحيح، بالطبع، أنّ العلاقات الهندية – الإسرائيلية شهدت قفزات نوعية منذ سنة 2014 مع صعود حزب بهارتيا جاناتا بزعامة مودي؛ تجاوزت، بمعدلات قياسية، التطورات البطيئة التي أعقبت استئناف العلاقات مع دولة الاحتلال في سنة 1992، خلال عهد رئيس الوزراء الهندي الأسبق ناراسيما راو. ليس خافياً، كذلك، أنّ التعاون بين نيودلهي وتل أبيب يسجّل معطيات دراماتيكية: من 200 مليون دولار سنة 1992، إلى 10,1 مليار دولار سنة 2023، في الاقتصاد والتجارة فقط؛ أي باستثناء المبادلات العسكرية، حيث تشتري الهند من دولة الاحتلال معدات عسكرية بقيمة 2 مليار دولار سنوياً، بما يمثّل 30% من مجموع صادرات الاحتلال في هذا الميدان. وخلال زيارة قام بها مودي إلى دولة الاحتلال في تموز (يوليو) 2017، وزيارة مقابلة من بنيامين نتنياهو إلى الهند مطلع 2018؛ جرى توقيع سلسلة من الاتفاقيات، صنعت في مجموعها صيغة تحالف ستراتيجي متعدد المستويات والحقول.
العلاقات الهندية – الإسرائيلية شهدت قفزات نوعية منذ سنة 2014 مع صعود حزب بهارتيا جاناتا بزعامة مودي؛ تجاوزت، بمعدلات قياسية، التطورات البطيئة التي أعقبت استئناف العلاقات مع دولة الاحتلال في سنة 1992
ومع ذلك لم تكن هذه القفزات كلّها، أو سواها، خلف شدّة الانحياز الهندي الأخيرة لصالح دولة الاحتلال؛ إذْ لم يكن أمراً عابراً أن يسارع مودي إلى التغريد، صبيحة 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لإدانة «حماس» والتضامن المطلق مع الاحتلال؛ ولم تكن ضرورات التعاون الاقتصادي والعسكري والأمني هي وحدها خلف لجوء الشرطة الهندية وأجهزة الأمن المختلفة إلى قمع التظاهرات المناصرة للفلسطينيين على الأراضي الهندية، مقابل تشجيع ورعاية المظاهرات الأخرى المتعاطفة مع الاحتلال. والمحصلة، بأسرها، لم تكن كافية كي تمتنع الهند عن التصويت على مشروع قرار في الأمم المتحدة يدعو إلى هدنة إنسانية، وثمة استطراداً أسباب أشدّ عمقاً تسيّر هذه الخيارات وتكيّفها، أو حتى تتحكم بها.
ثمة، أوّلاً، نمط جيو – سياسي يسوقه مراقبون كثر ويتصف بدرجات متفاوتة من الصواب والصلاحية، كما في حرص مودي وحكومته على تعميق العلاقات مع الولايات المتحدة أو عدم تعكير صفوها عبر البوابة الإسرائيلية؛ أو، في المقابل، قطع الطريق على الصين ضمن المنافسات الآسيوية/ الآسيوية أو مع دول خليجية مثل السعودية والإمارات (خاصة في مشاريع مثل «I1U2»، و»كوريدور الهند – الشرق الأوسط -أوروبا»)؛ أو، ثالثاً، تسخير النفوذ الإسرائيلي في صدّ الانتقادات الأوروبية لمواقف الهند المحابية لروسيا حول الملف الأوكراني؛ أو رابعاً، وليس آخراً، ردع انتقادات بعض العواصم الغربية بصدد تورّط الهند في اغتيالات الانفصاليين السيخ على الأراضي الكندية.
وثمة ثانياً، ولعلّه الجوهري والأهمّ، نمط إيديولوجي وعقائدي وشعبوي تنبثق محاوره الكبرى من اليقظة العارمة للقومية الهندوستانية، التي كانت أصلاً وراء صعود بهارتيا جاناتا ومجموعة مودي، من جانب أول؛ والتماهي، التكويني ولكن الآخذ في الاطراد، بين الصهيونية سياسة وممارسة وفلسفة، و»الهندوتفا» بوصفها نبراس النزعات القوموية الهندية والتي باتت فلسفة شبه رسمية للسياسة الحكومية الهندية منذ صعود مودي، من جانب ثانٍ. وكما أنّ الصهيونية أقامت معظم ركائزها على فكرة «الوطن القومي لليهود»، فإنّ الهندوتفا تقيم الكثير من أركانها على مفهوم الـ»أكهند بهارات»، أو «الهند غير المجزّأة»: لا مكان للفلسطينيين في فلسطين حسب الصهيونية، ولا مكان للمسلمين في الهند الكبرى حسب الهندوتفا. وإذ تسير الصهيونية في طبعة أمثال نتنياهو وإيتمار بن غفير نحو منظومات الأبارتيد، فإنّ الهندوتفا على يد أضراب مودي وأميت شاه تستعيد الكثير من جذورها التأسيسية مطلع القرن المنصرم كحركة فاشية تعتمد النقاء العرقي.
وكان ف. د. سافاركار (1883-1966)، وهو المفكر والسياسي الأبرز في الأطوار التكوينية للنزعات القوموية الهندوستانية وصاحب اصطلاح الهندوتفا، لا يفوّت فرصة من دون إبداء الإعجاب بالفكرة الصهيونية، والحثّ على الاقتداء بها ونقلها إلى الهند على أصعدة سياسية واجتماعية ومذهبية. وكانت المقارنات التي يعقدها بعض القومويين الهندوستان بين سافاركار وتيودور هرتزل تدعو إلى السخرية، أكثر بكثير مما تستدعي المفارقة الصارخة؛ بالنظر إلى أنّ الأوّل كان بالغ الإعجاب بشخص أدولف هتلر، وله تصريح شهير يقول فيه: «مؤكد أنّ هتلر أفضل من بانديت نهرو في اختيار ما يلائم ألمانيا». وظلّ يرى في الصهيونية «ابنة عمّ» للهندوتفا في جوانب عديدة، أبرزها عنده مسألة التفوّق العرقي وتجييش الدين ومفهوم العصبة، وأنّ الأمم يمكن أن تُبنى على أساس هوية أحادية منفردة.
ومن جانب آخر، لا يقلّ حساسية وخطورة: كما أنّ اليهودية ليست الصهيونية، أو العكس؛ فإنّ الهندوسية ليست الهندوتفا، أو العكس. وفي كتابه «جوهر الهندوتفا»، 1921، يهوّم سافاركار هكذا: «الأفكار والمُثُل، الأنظمة والمجتمعات، الفِكَر والعواطف التي تمحورت حول هذا الاسم [الهندوتفا] متنوعة للغاية وجدّ غنية، عظيمة القوّة والعمق، شديدة الشمول ولكنها مع ذلك عظيمة الحيوية حتى أنها تتحدى كلّ محاولات التحليل. أربعون قرناً، إذا لم يكن أكثر، تضافرت لصياغتها على هذا النحو. أنبياء وشعراء، محامون وقضاة، أبطال ومؤرخون، كلهم فكروا وعاشوا وناضلوا وماتوا لمجرّد أن تُنطق هكذا. ذلك لأنها بالفعل ليست نتاج أفعال لا حصر لها، متصارعة تارة أو متمازجة تارة أخرى لعرقنا بأسره، ولهذا فإنّ الهندوتفا ليست كلمة، بل هي تاريخ».
هذا التهويم كان يتطابق، على نحو صاعق أحياناً، مع أفكار هرتزل في «الدولة اليهودية»، وخلال عشرينيات القرن المنصرم شدّد سافاركار على علاقة العمومة التي تجمع الهندوتفا مع الصهيونية؛ واعتبر أنه «إذا تحققت أحلام الصهاينة ذات يوم، وأصبحت فلسطين دولة يهودية، فإنّ هذا سوف يسعدنا على قدر المساواة مع أصدقائنا اليهود». فالقومويون الهندوستان، خاصة دعاة التفوّق العرقي في صفوفهم، لم يعتبروا أنّ المقارنة بين الهندوتفا والصهيونية محض اختلاق أو مصادفة عشوائية؛ بل (حسب الباحث من جنوب أفريقيا آزاد عيسى في كتابه الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية تحت عنوان «أوطان معادية: التحالف الجديد بين الهند وإسرائيل»)، كان يمثّل حالاً تبادلية، وحوارية طويلة، بين اليهودية والهندوسية بوصفها «حضارتين على امتداد العصور».
ويبقى واجباً استذكار حقيقة أولى تاريخية تقول إنّ الهند، ما قبل مودي وحزب بهارتيا جاناتا ظلت صديقة القضية الفلسطينية على نحو عزّ العثور عليه عند العديد من الأنظمة العربية الحاكمة؛ والسجلّ يفيد بأنّ نيو دلهي صوّتت لصالح فلسطين (وبالتالي ضدّ دولة الاحتلال) في عشرات القرارات التي تخصّ حقوق الفلسطينيين بصفة شاملة، ومسائل انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، وحقّ العودة، والسيادة الفلسطينية. حقيقة ثانية تقول إنّ نقلات كبرى في تطوير العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية تمّت خلال فترات حكم حزب المؤتمر، وحين كان كبار رجالاته في سدّة السلطة (نهرو وأنديرا وراجيف غاندي)؛ وليس فقط خلال فترات حكم الأحزاب ذات التوجّه القومي الهندوستاني.
الأمر الذي لا يبدّل تأثير علاقات العمومة بين الصهيونية والهندوتفا في الزمن الحاضر تحديداً، حيث يُحرق العلم الفلسطيني في شوارع هذه الهند، إياها.
كاتب سوري