في البدء كانت الحكاية، وفي الحكاية بداية ونهاية، وفي النهاية عبرة وغاية؛ قصة الوجود حكاية، ألف ليلة وليلة حكاية، الموت حكاية، الحب حكاية، المرأة حكاية والحياة نفسها أكبر حكاية. الحكايات تطاردنا مثل ظلّ لا ينفع معه التّسلل والخفّة أو المباغتة. في تراث الأمم هناك الكثير من الحكايات الشعبية التي تعبّر عن روح الأمة وقيمها وتاريخها وبيئتها وشخصيتها المكانية والزمانية. وتظل هذه الحكايات متواشجة مع وجدان النّاس وقدرتهم على الصمود والوقوف في وجه المعتدي الآثم.
ما أردت قوله هنا إنّ الحكاية أقرب إلى طبيعة البشر من غيرها من الأجناس الأدبيّة الأخرى. الحكايات من حولنا لا تنام بل تتوالد في الليل والنهار منذ الجدة الأولى للكون إلى قيام الساعة.
هناك تحوّل غير مسبوق إلى الرواية كجنس أدبي إلى الدرجة التي بات فيها الأمر ظاهرة تستحق الرصد والدراسة، أو الإشارة على الأقل. هذه الحركة أو هذا التحول يعبّر بالضرورة عن حالة ما، لها دوافع ترتبط بأسلوب الحياة أو أدواتها. ربما داخل كل شخص فينا حكاية تنتظر أن ترى النور، قد نمتلك الأدوات المناسبة من لغة وخيال وتقنيّة ورؤية لتحويل هذه الحكاية إلى رواية، وربّما تظلّ حكاية بسيطة نتداولها في المجالس العامة والخاصة.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل تستمر عملية اكتشاف الذّات إلى مرحلة متأخرة من تجربة المبدع؟ كأن يكون شاعرا، أو قاصا، أو كاتب مسرح، أو دراما، ويكتشف في نهاية المطاف أن الرواية هي الأقرب إليه، وهي الأقدر على التعبير عن هواجسه وقلقه. في رأيي هذا احتمال ممكن، فالتجريب والتنقل من جنس إلى آخر كان موجودا وسيظلّ موجودا، وفي المقابل، الالتزام بجنس أدبي واحد والتمسك به ما زال له مناصرون وأتباع؛ فبعض من كتبوا القصة القصيرة لعقود طويلة على سبيل المثال، ظلّوا مخلصين لها ولم يجرّبوا في غيرها. آمنوا بالاختصاص وبالشخصيّة الأدبيّة والاندماج في العمل لحدّ التّماهي، لكن هذا الأمر على وجاهته لا يفسرّ هذه الحمّى الروائيّة المستشرية كالنار في الهشيم.
ربما كانت هناك عوامل أخرى لها علاقة بالأمر، مثل سهولة النشر نتيجة لغياب المعايير الصارمة، وتحوّل بعض دور النشر إلى مؤسسات ربحيّة تهتم بالغلاف الذي يجذب القارئ، وتهمل المحتوى ومضمون العمل ولغته، ما دام المؤلف يدفع مقابل طبع كتابه. وربما لعبت التكنولوجيا وأدوات العصر من إنترنت وشاشات ذكيّة دورا في استسهال عملية الكتابة، فالنواحي المعرفية أصبحت في متناول الجميع ولم تعد تتطلب جهدا كبيرا، كما في السابق للبحث المضني في المكتبات عن مراجع ممكنة في هذا الموضوع أو ذاك، كما أنّ التأثر بحبكة بعض الأفلام السينمائية الأجنبية أصبح يرقى إلى درجة أبعد من التأثير البسيط في مجريات العمل الروائي. ربما الجوائز ونجومية بعض الروائيين دفعت في اتجاه تحوّل الرواية إلى «تريند» فشحذت خيال بعض المبدعين للتجريب في هذا المضمار خاصة إذا امتلك اللغة الناضجة، فالرواية كجنس أدبي فضفاض لديها القدرة على استيعاب الموسيقى والمسرح والغناء والدراما والفلسفة وأدب الرحلات واللحظة الشعرية المتوترة. هذا أمر مغر قد يتحقق في الأجناس الأخرى بدرجات متفاوتة، لكن ليس كما في الرواية.
لكن السؤال المقابل: لماذا تحوّل القارئ العربي إلى الرواية؟ هذا أمر يحتاج لتتبع تاريخي وفهم لسيكولوجيّة التلقي عند الإنسان العربي. ربما لأن منبرية الشعر وخطابته لم تعد تناسب أسلوب حياته الجديد؛ الإيقاع المادي والسريع، التداخل التكنولوجي والقيم التكنولوجيّة الجديدة، التّخلّي عن المثالية في ظل أوضاع اقتصادية خانقة، تحوصل المعنى في صدر الشاعر وتعذّر وصوله إلى المتلقّي، خاصة في بعض نماذج قصيدة النثر، تعقيدات الحياة الحديثة أصبحت بحاجة للرواية التي تستوعب هذه القفزات التكنولوجيّة المباغتة؛ فالإنسان أصبح أكثر اعتمادا على جهازه الخلوي وأكثر التصاقا به، وكأنه طفل للتو سقط من رحم أمه وبحاجة لمراقبة مستمرة. كانت الحياة بلونين فقط؛ الأبيض والأسود، أمّا اليوم فحدّث ولا حرج، كل يوم يخرجون علينا بلون جديد، والمعاجم ما زالت تلهث خلف هذه المفردات الجديدة والغريبة. من يعرف ماذا تخبئ لنا التكنولوجيا؟ فما حدث في الخمس والعشرين سنة الماضية لم يحدث في آلاف السنين من عمر البشرية. وربما هناك أسباب أخرى بعيدة كل البعد عن هذه الاجتهادات والتّكهّنات، فما زال الأمر بحاجة لتمحيص وتقليب حتى يظهر علينا وتبان جوانبه وحدوده.
وعلى أي حال، فإن فعل القراءة، مقارنةً بفعل الكتابة، ما زال متباطئا متكاسلا، على الرغم من الحراك الذي نشهده بين حين وآخر، والذي يشبه جزرا صغيرة منتثرة على وجه المحيط الشاسع. وكما بات من المعروف، فإن فرصة وصول الرواية إلى يدي القارئ العربي ضئيلة جدا، ما لم تظهر في القوائم الطويلة أو القصيرة لبعض الجوائز، إلا ما رحم ربّي. هناك الكثير من الروايات التي تنتظر قارئا لاكتشافها وقراءتها. ربما عندما تخفت حدّة هذه الموجة، يأتي دور الروايات التي تكدّست على رفوف المكتبات الوطنية وفي مستودعات دور النشر لتخرج من العتمة والرطوبة إلى الشمس والنور.
في الختام، الروائي يجب أن يكون صاحب مشروع روائي، يظهر في مجموع أعماله المتتالية، وليس مجرد نزوة عابرة. هذا المشروع قد يرتكز على الإنسان، أو التاريخ أو الجغرافيا، أو المعرفة أو النضال، أو الحب أو أي ثيمة أخرى تلحّ على الروائي فتظهر في أعماله بأسلوب فني مبتكر ولغة طازجة، ينسى معها القارئ أنه يقرأ الحدث بل يعيشه بحواسه الخمس أو الست.
كاتب أردني
{ لكن السؤال المقابل: لماذا تحوّل القارئ العربي إلى الرواية؟}.حضرتك ذكرت جملة عوامل لهذا التحوّل…وأضيف لها عاملًا أعمق في فطرة الإنسان وأوسع في أفق الزمان والمكان…وهو العلاقة العضويّة بين الحكاية والحنين إلى الآداميّة.إنّ الإنسان في فطرته لديه حنين أبديّ إلى التكوين الأوّل للخلق؛ وهذا لن يتحقق إلا في القصّة والرّواية؛ وليس في الشعر…الشعرحواء والرّواية آدم. وللتذكير فإنّ جميع الأطفال يركنون للقصّة والحكاية منذ السنة الأولى أوالثانية من العمر… لكن لا يركنون إلى الشعر إلا إذا تحوّل إلى أغنيّة طروب قبل النوم على لسان الأمّ.فإذا أردت اكتشاف هل ولدك لديه نزعة الشعر أم نزعة الرّواية؛ ستعرفه من حبّه لأمّه أكثرأم حبّه لأبيه أكثر.فإذا كان يميل أكثرإلى أمّه فهو( شاعر)…
وإذا كان يميل إلى أبيه أكثرفهو ( قاصّ أوروائي ).ولكلّ قاعدة استثناء…من هنا نفهم لماذا استحضرت الكتب المقدّسة القصص لتكوّن مع المخاطب المتلقي؛ لغة حوارفاعل.لأنّ القصّة ثمّ من بعدها الرّواية تخاطب العقل الأساس؛ الذي لا يلغيه التطوّر الزمنيّ للإنسان ( من ذكروأنثى).لذا تجد في شخصيّة الرّوائيّ صراع آدم البطل المقارع لإبليس؛ وفي شخصيّة الشاعر غواية آدم مع حواء.لهذا الشعراء يتبعهم الغاوون.أما الرّاوية ففيها التوبة من الغواية…شكرًا لأسلوبك السهل الممتنع في المقالة.