عيناه عسليتان قاتمتان، ووجهه مدوّر وممتلئ بابتسامة دافقة بأمومة لا يؤثّر فيها تقدّم العمر أو تغيّر الحال. هل هو من أثر الموسيقى أن ملامح الملحّن محسن فرحان ظلّت كما هي منذ لقائي الأول به، وكان جرى في تسعينيات القرن الماضي، أم أنها فكرة الأمومة التي يمكن للحياة بواسطتها أن تكون متجدّدة، وقد تشرّب بها وجهه، وأعطته مناعة ضدّ أن يشيخ؟ إن في الخلق الفني أمومة صغيرة احتياطية، إذا شئتم التأكد منها فما عليكم إلاّ أن تعاشروا موسيقياً، وتتالت اللقاءات بيني وبين الموسيقار حتى وفاته، وكنت في كل مرة أجلس معه أشعر بأني على حافة شيء ما، ونوع من حلم اليقظة لا أستطيع أن أتبيّنه، لكن يمكنني الإحساس به. إن العاملين في فن العزف هم مثلنا الأعلى، فمن منا لم يجرب شبه إغماءة وهو يشاهد فتاة تعزف؟ السبب يعود إلى أنها تؤدي طقوس صلاة عُليا سوف يشترك فيها الجميع حتما.
لكنّ رزق الفنانين قليل، يشبه ظلَّ الغمام الصامت، ينقضي وينفد بسرعة. لا أتذكر أين قرأت هذا الوصف، ربما في شعر اليوناني جورج سيفيريس: «ملابسه بالية ومع هذا يبدو أنيقا مثل موسيقيّ فقير». كما أن أهل العزف يقومون بدور صوفيي العصر، إيقاع قرع أفئدتهم هو النبض الحيّ للدين. في سنوات الفاقة والإملاق التي مرّت علينا بعد حرب الخليج الثانية، وتحت حكم ما كان يُدعى بالحصار الاقتصادي، اضطرّ محسن فرحان إلى أن يفتح دكانا في بيته لبيع الخضار. لم ينتظر المساعدة من أحد، ولم يطلبها، ولم يبع ألحانه لمن كان بيده المال والسلطة، وهي عِفّة في النّفس تكون معجونة بها دماء المبدعين والأخيار من البشر.
إن إدراك الجمال وإثارة عواطف الناس ليسا أمرين سهلين أو متاحين للجميع، وهما في الواقع هدية الإله للمخلوق، وبهذا المعنى ذهب شارحو الآية الأولى من سورة فاطر «يزيد في الخلق ما يشاء» قال الزهري وابن جريج: يعني حسن الصوت، وبراعة السمع وابتكار النغم الساحر والمؤثر يتبعان هذا النوع من الحُسن.
إن صور الإله متعدّدة، وتتجلّى أكثر في الفنون. تفسير الآية إذن هو أن وجه العظمة للبارئ يظهر لنا في الموسيقى والألحان. قبل حوالي شهر، وعندما بلغني نبأ رحيل محسن فرحان استمعت لأغنية «غريبة الروح» وهي كلمات وأنغام مشبعة بعصير الحزن العراقي، الذي يعود إلى قديم الزمان، وكلما سبّب الأسى لدى أحدنا احتراقا دفينا، تحصّن بهذه الأغنية، فينسى عندها بداية الحزن، وينسى منتهاه. يقول مقطعٌ منها: «وأَهَيْسَكْ (أهجسك) جرح بجروحي/ تمرمرني وتردّ (تعود عندها إليّ) روحي» هو الألم العراقي القديم يُقبل من جديد، ونحيا به كي لا ننسى ما جرى في السابق، أي أنّه تذكير، وليس استعذابا للعذاب، فعندما يكون المحيط مصنوعا من مادة الألم الأسود يكون الحزن عندها طبيعيا، ويغدو مثل الزاد الذي يصدّ آفة الجوع أو الدواء ضدّ المرض العضال. ذكر هذه الحقيقة الفيلسوف الكنديّ في إحدى رسائله: «الموسيقار الباهر يعرف ما يشاكل كلّ من يلتمس إطرابه من صنوف الإيقاع والنّغم، مثل حاجة الطبيب إلى أن يعرف أحوال من يلتمس علاجه أو يحفظ صحته».
مؤلف أغنية «غريبة الروح» هو الشاعر جبار الغِزّي، وفي أحد الأيام جمع مسؤول في الدولة العراقية السابقة (1968 – 2003) الشعراء والملحنين ونقل إليهم أمرا صادرا من وزير الثقافة، أن يجعلوا موسيقاهم وأغنياتهم تدلّ على الفرح ورغد العيش، وكان جواب الغِزّي أنه كتب مباشرةً أغنية: «يقولونْ غَنّيْ بفَرح/ وآنه الهموم اغناي (أنا الذي همومي أغنيتي) وقام محسن فرحان بتلحينها. فات هذا المسؤول أن الإنسان يتشابه مع موسيقاه، لأنها صورة لأفكاره وهواجسه. عن الفيلسوف الفارابي: «ما هو طبيعي للإنسان يُشتقُّ مما هو طبيعي لأغلبية الناس في أكثر الأزمنة. وكونُ الناس يسكنون مناطقَ مختلفةً من بيئات متباينة، تختلف وتتنوع الموسيقى التي يراها كل قوم طبيعية لسماعهم». وتوصّل إلى المعنى ذاته الطّبيب والفيلسوف ابن سينا «الموسيقى علم رياضي يُبحث فيه عن أحوال النغم من حيث تأتلف وتتنافر، وأحوال الأزمنة المتخلّلة بينها ليُعلم كيف يُؤلّف اللحن».
بقي محسن فرحان مخلصا لفنّه رغم كلّ شيء، وإن كل شيء يتوجه إليه الآن بالشّكر، ويحيي ذكراه؛ الهواء والماء، وحتى الشّمس والنّجوم والقمر والناس.
عندما غزا المغول بغداد عام 1258 قتلوا الخليفة المستعصم وأخذ جنود هولاكُو يتفرّقون في المدينة المنهوبة والمحترقة بحثا عن غنائمَ وسبايا، وقد انهزمت جميع الأسلحة، ولم يبق سوى الوتر. من كتاب «فوات الوفيات» للمؤرخ الضرير العزّ الإربيلي: «طلب هولاكُو رؤساءَ البلد وعُرفاءَه وأمرهم أن يقسّموا دروبَ بغداد ومحالّها وبيوتَ ذوي يسارها على أُمراء دولته، فقسّموها وجعلوا كلّ محلّة، أو محلّتين أو سوقين باسم أمير كبير، فوقعَ الدّربُ الذي كنتُ أحضرُه في حصّة أميرٍ مُقدّم عشرةَ آلاف فارس اسمه «بانْوانِوين» وكان هولاكُو قد رسم لبعض الأُمراء أن يقتُل ويأسرَ وينهبَ مدة ثلاثة أيام، ولبعضهم يومين، ولبعضهم يوما واحدا، على حَسب طبقاتهم… فوقف «بانْوانِوِين» على باب الدّرب وهو مُدبّسٌ بالأخشاب والحجارة، فطرقوا الباب وقالوا: افتحوا لنا الباب وادخلوا في الطّاعة ولكم الأمان، وإلاّ أحرقنا الباب وقتلناكم». خرج إليهم الموسيقي صفيّ الدين الأُرمَوي البغدادي، وكانت تعبر فوقه سحابة ظلّ ينظر إليها وهو يضرب على عوده وجوقة المغنّيات ينشدن معه، ووقف الجنود عندها مأخوذين بهذا السحر الذي أخذ يسري في دمائهم سريعا مثل سمٍّ قويّ شافٍ، واستيقظت في سرائرهم شفقة غير معهودة، فإذا هم يعفون عن أهل الحيّ جميعا، وخلّص الموسيقي البغدادي بلدته من الدّمار، وناسه من القتل.
انهمرت الأعوام سريعا، وتعدّد الغزاة لهذه المدينة التي كانت في الماضي منارا للشرق والغرب، وها نحن في عام 1998، وفي أحد أحياء بغداد، حيث يقع بيت محسن فرحان. غادر آخر المشترين من الدكانة لبيع الخضروات والفواكه، وخلا الزقاق من المارّة، وتوقفت حركة العجلات على الشارع القريب، وحلّ هدوء شامل، حتى الريح التي كانت تهبّ قبل قليل سكتت، وكان الموسيقار يصيخ السمع إلى صمت مُبهم ومريب، صمتٌ يُرى ويُلمس ويدخل في مسامات جسده ويتبلّل به شعره. النجوم في السماء التي تبين من النافذة كفّت عن ألحانها، والقمر كذلك. إن الكون يستصرخه أن يقوم بعمل يلغي به هذا الجمود الذي عطّل كل شيء وثبّته في مكانه. بحركة مرتبكة من يديه تناول الملحّن آلة العود. هل حانت ساعة العزف؟ تساءل في نفسه. إن القلب يتحدث عن طريق اليد أحيانا، نقرة واحدة على الآلة أعادت كل شيء إلى طبيعته، وآمن العازف أن موسيقاه تبلغ، ما إن يؤديها، جميع المخلوقات، بمن فيهم البشر وحتى الجماد. بدأت الزيزان تصرّ فجأة، وفاح شذا عطر الرشاد في الدكان، وعادت حركة سير المرْكبات والمُشاة في الشارع، معلنة عودة الروح إلى المدينة التي كاد غبار الصمت والليل يغلّفانها، ويخنقان كل وجود حيّ فيها.
بقي محسن فرحان مخلصا لفنّه رغم كلّ شيء، وإن كل شيء يتوجه إليه الآن بالشّكر، ويحيي ذكراه؛ الهواء والماء، وحتى الشّمس والنّجوم والقمر والناس…
أُنهي المقال بهذا السطور من كتاب «فوات الوفيات»: سأل هولاكو الموسيقارَ البغداديّ الذي أنقذ حيّه من التسليب والقتل: «أنتَ كنتَ مغنّي الخليفة؟ قلتُ نعم، فقال: أَيْشِ أجوَدُ ما تعلم في علم الطّرب؟ فقلتُ: أحسِن أن أُغنّي غناءً إذا سمعه الإنسان ينام، قال: فغنّ لي السّاعةَ حتى أنام… فقلتُ: يا خونْد، الطربُ بأوتار العُود لا يطيب إلاّ على شرب الخمر، ولا بأس أن يشربَ الملكُ قدحين أو ثلاثة حتى يقعُ الطّربُ في موقعه، فقال: أنا مالِيَ في الخمر رغبةٌ لأنه يشغلني عن مصالح مُلكي، ولقد أعجبني من نبيِّكُم تحريمَه، ثم شرب ثلاثة أقداح كبار…» ويؤدي البغدادي أغنيته، ويسكر القان (هُولاكُو) باللحن قبل المُدام، فلم يتمّ المغنّي نوبته حتى رأى القانَ نعِس، ثم نام، وحين صحا قال للبغداديّ: تمنَّ عليّ، فيتمنّى هذا بستانا، فيتبسّم القانُ ويقول لأصحابه: هذا مسكين، مغنّ قصير الهمّة، لمَ لا تمنّيتَ قلعةً أو مدينة؟ أيِش هو بستان! فيقبّل المغنّي الأرض بين يديه ويقول: يا ملك، هذا البستان يكفي، وأنا ما يجيءُ مني صاحبُ قلعة أو مدينة، فرسم هُولاكُو له بالبستان، «وخرجتُ من بين يديه، وأخذ لي «بانوانْوين» أميرا بخمسين فارسا ومعهم عَلمٌ أسود، وكان هو عَلمُ المغول الخاصّ بهم، برسمِ حماية دربي، فجلس الأميرُ على باب الدّرب ونصبَ العلمَ الأسود على باب الدّرب…».
كاتب عراقي