الرباط – “القدس العربي”: الشارع يضج مساء بصخب يسري في ثناياه صوت السيارات ويمتزج تارة بصوت الترامواي وإنذار القطار وهو يعلن قرب وصوله محطته في قلب مدينة القطار. هي أصوات تخبر بدرجة التمدن في العاصمة. وفي قلب العاصمة، في شارعها الرئيسي الذي تعد المؤسسة التشريعية أحد معالمه، اعتاد المارون على الصوت الميكانيكي لوسائل المواصلات إلى جانبه صوت المحتجين الذين يجتمعون أصنافا وفئات وبدواع مختلفة وشعارات موزونة على إيقاع الغضب أمام البرلمان عسى أن يكون لندائهم مجيب. في تشكيلة الأصوات تلك التي كادت أن تصبح نمطية في مركز المدينة فرضت أصوات أخرى حضورها “المفاجئ” لتكسر النمط الذي لم ينفلت حتى غناء الحمام الذي يختار هو الآخر منصة في مكان استراتيجي أمام البرلمان ليعزف لحنه الوحيد، إلى أن ظهر المتمردون فكسروا رتابة الأصوات والعادات والصور، فخرجوا من بين الجموع التي تسير على الشارع حاملين حقائب لا تثير الشك حول ما تحمله من عتاد، إلى أن يقعوا على مكان بسمات خاصة فيخرجون ما في الحقائب ويتحولون من سائرين كباقي الناس إلى بؤر تجلب آذان وعيون كل الناس.
يخرجون آلاتهم الموسيقية، دقائق من التوضيب، ويتحول المار إلى موسيقي في الشارع. هؤلاء المتمردون، الذين أصبحوا يعرفون بموسيقيي الشارع، صاروا معالم أخرى في زوايا عديدة في قلب المدينة، معالم صوتية بصرية، شباب في مقتبل العمر اختاروا أن يغنوا ويعزفوا جهارا بلا قواعد كلاسيكية عن المكان والعازف والمتلقي، اختاروا الشارع، أضافوا رونقا لقلب الرباط الذي يجافيهم أحيانا لكنهم لا يبادلون الجفاء الذي يبديه أحيانا رجال السلطة بالجفاء، بل يصرون أكثر على العزف والغناء.
قيثارة وقبعة
ينبعث صوت عذب يغني غناء طربيا مغربيا، يتحلق حوله مستمعون من أجيال مختلفة، رجالا ونساء. المغني شاب بشعر طويل وبلباس يجاري موضة جيله العشريني، ينتهي من قطعته، يتعالى تصفيق ويجود بعض الجمهور الواقف ببضعة نقود على قبعة تتوسط “الحلقة” على الأرض … يضع قيثارته على مهل ويحدث الجريدة في لحظة استراحة له. في بداية حديثه يسترجع سياف حكايته مع الغناء في الشارع ويقول لـ “القدس العربي” إنها جاءت بشكل تدريجي: “فكرة أن أغني في الشارع بدأت تدريجيا. في البداية قمت بها بشكل عرضي ولم أكن أضع القبعة ومكبر الصوت. بدأت الفكرة بسيطة لم تكن لدي فكرة مشاركة ثقافة موسيقية مع الناس وأن أنقل لهم إحساسي من خلال الموسيقى، ثم انضافت عناصر أخرى ساهمت في بناء شخصيتي كفنان في الشارع “. وأستوقفه بالسؤال:
– قلت إنك فنان في الشارع لما لم تقل فنان فقط؟ هل هناك هوية خاصة لفنان الشارع؟
فيجيب:
فنان الشارع هو فنان لكنه ليس فنان شريحة محددة قد تأتي لتبحث عنه في قاعة عرض، هو فنان الشرائح كلها، هو فنان عرضة لكل الناس، ليس محصورا بين أسوار مسرح أو قاعة عرض، بدل أن يأتي لك الناس تذهب أنت للمكان الذي سيتوفرون فيه بمختلف فئاتهم، ليسوا محكومين بتذكرة ولا بثمنها.
– كيف بدأت قصتك مع الموسيقى؟
اكتشفت الموسيقى منذ حداثة عمري، والدي يحب الموسيقى فإلى جانب كونه مدرسا للتربية الإسلامية فهو يلقن كذلك الموسيقى، وبث في روح الفن بشكل عام وأذكى في خصوصا الحس الموسيقي، أما هو فإلى جانب الموسيقى يهتم بالرسم.
فرجة مجانية
أصبح لموسيقيي الشارع في قلب العاصمة الرباط معجبون يتحلقون حولهم. قد يجودون ببعض الدراهم وقد يتزودون بمتعة فرجة بالمجان ويذهبون في حال سبيلهم. هؤلاء الشباب يوفرون ترفيها يكسر رتابة الانضباط المعروف عند أهل الرباط والمتأتي من طابع المدينة الإداري وكونها مركز السلطة المركزية، ولهذا انعكاس على ذهنية سكان المدينة وسلوكها. ويستطيع أي قادم من مدينة أخرى أن يستشفه، فأتى هؤلاء الشباب ليكسروا النمط والهدوء الرتيب بموسيقاهم المتعددة الألوان ومنهم من ينتظر “ربحا” ولو لسد حاجات التنقل وصيانة الآلات ومنهم من لا يرجو سوى لحظة استمتاع وإمتاع متبادل بينه وبين مستمعيه.
“أنا أحب الموسيقى ورغم صعوبات العيش فأنا أحاول الوصول إلى أهدافي، ما أجنيه من عزفي في الشارع قد لا يكفي حتى لسد مصاريف مواصلاتي وأحيانا إصلاح قيثارتي، لكني أحب العزف هنا ولدي الآن ألبوم جاهز ينتظر النشر. في قرارة نفسي أعرف أن التروي سيوصلني لما أبتغيه، ما يأتي بسرعة يذهب بسرعة”، يقول سياف، الذي بالرغم من موارده المحدودة فهو يبدي إصرارا على السير بخطى متأنية إلى أن يحقق هدفه. في ركن من شارع محمد الخامس يعزف هذا الشاب على قيثارته وهو ينتقل من أغان مغربية إلى مشرقية إلى غربية. ورغم حداثة سنه فهو يحاكي نمط أجيال موسيقية سبقته كما ينغمس فيما يسمعه جيله، “الشارع المغربي يتفاعل مع الموسيقى الطربية وغير السريعة ولكن بحكم كوني شابا فأنا أمزج كل الألوان. الموسيقى عندي هي الموسيقى ولا تنحصر في لون بذاته ” يقول سياف.
مسافة يمكن قطعها مشيا، ليست بعيدة كثيرا عن سياف يعرف أنس كموسيقي شارع هو الآخر، درس الموسيقى مدة ثماني سنوات في المعهد الموسيقي في الرباط، ولم يعد الشارع مكان عزفه الوحيد. يقول لـ “القدس العربي ” وعينه على زبائن تستوقفهم ملصقات يعرضها على الأرض للبيع. لقد امهتن العزف في بعض الملاهي الليلية والمطاعم وبيع الملصقات: “في الشارع لا أمتهن الموسيقى بل أعزف لأني صرت مولعا بالشارع وأصبحت آتي للعزف لأتخلص من التوتر الذي يسببه العمل. فأنا أعزف في الملاهي والمطاعم، لكني لا أستطيع الاستغناء عن الشارع. أشعر بسعادة كبيرة وأنا أعزف فيه”.
الموسيقي ورجل السلطة
على عكس ما شهدته مدن مغربية أخرى من علاقة متوترة بين رجال السلطة وموسيقيي الشارع بلغت حد إحالة بعضهم إلى المحاكمة في مدينة الدار البيضاء ومنعهم من مزاولة نشاطهم الفني في ساحة تتوسط كبرى حواضر المغرب فإن الرباط تتسم العلاقة فيها بين موسيقيي الشارع والسلطة بتعايش نسبي لا يخلو من مشادات أحيانا، فيسمح لهؤلاء الفنانين بمد سلطتهم على أمتار ولو لساعات مؤقتة.
“العلاقة متذبذبة” هكذا وصفها سياف “فرجل الأمن يمتثل لأوامر، وأحيانا يطلبون منا أن نخلي الشارع حينما تكون مظاهرة ما كي لا تصيبنا ضربات طائشة حينما يحدث كر وفر في الشارع، في هذه الحالة لا تكون هناك مشاكل، المشكل يحدث حينما يأتي رجل سلطة غير واع ولا يجيد التعامل وقد ينتج عن ذلك صدام أو معاملة سيئة بين الطرفين. أنا أحاول اختيار مكان لا أزعج فيه أحدا ولا أعرقل فيه حركة مرور”.
ما الذي يجعل السلطة تتوجس من تجمهر حول آلة موسيقية في مكان اعتاد فيه المارون على التجمهر من أجل الاحتجاج وإطلاق شعارات تردد صداها بنايات وسط الرباط، وربما ينفذ الصوت إلى مؤسسة البرلمان وقد تصم آذانها عنه حتى الجدران! يحاول أنس استيعاب مبررات التضييق الذي قد يمارس عليه أحيانا كموسيقي شارع ويقول: “قبل ثلاث سنوات لم يكن هناك موسيقيو الشارع في قلب الرباط، قبل أن نصير جزءا من المنظر العام للشارع. ورغم أن البعض قد يعطي مضمونا قدحيا لكلمة الشارع فنحن ننشر ثقافة جميلة ونخاطب الجمال في الناس ما الذي يزعج السلطة في تواجدنا؟ لا أعرف” مضيفا “في بداية توافدي على الشارع كنت أتعرض لمضايقات يومية من طرف رجال الأمن. أحيانا أتفهم الدواعي إذا ما اشتكى صاحب مقهى أو أحد المواطنين فأخلي المكان، وأحيانا يكون سلوك رجل الأمن فقط من أجل فرض السلطة، عندها أرفض أن أتزحزح من مكاني”.
في بعض المساءات تغيب أصوات من كسروا طوق النمطية وتغدو الأصوات العادية سيدة الفضاء فيفهم المارة أن السلطات طردت موسيقيي الشارع، فظاهرة التجمهر حول فنانين مازالت بعيدة عن ذائقة السلطات الرسمية. وثمة خشية من أن يصاب قلب العاصمة بعدوى فن “الحلقة” المعروفة به مدن مغربية أخرى أهمها مراكش في ساحة جامع الفنا ومدينة مكناس “ساحة الهديم” وفي فاس “باب خوخة” وهي فضاءات للمسرح والغناء في الهواء الطلق. مازالت تلك الفعاليات حديث الوقع على قلب العاصمة الرباط وعامل الزمن سيظهر هل تنتصر الأصوات النمطية في احتكار الفضاء أم ستقبل شريكا موسيقيا يضيف معلمة حضارية للمدينة؟