«موعد على العشاء»

ليست العلاقة بين الحكومات العربية ومواطنيها علاقة إدارية، علاقة إدارة ومنتظمين فيها، علاقة أشخاص متساوين في القيمة الإنسانية والاجتماعية، ذلك أننا لو كنا كذلك، هل كان يتجرأ وزير على طرد المعترضين في بلده، المواطنين أصحاب الأرض والتاريخ والثقافة، قائلاً “من يريد العيش بحرية، فليذهب إلى أوروبا؟”. الحرية أصبحت إثماً، خطراً داخلياً، عاراً يتطلب نفي صاحبه خارج أرضه؟
عاراً كانت الحرية أم حقاً إنسانياً، يبقى أن أمرها في يد ولي أمرنا، فنحن شعوب أبوية بالمعنى القديم الصارم للكلمة، حيث المسؤول والد، والوالد له أن يطرد أبناءه من جنة داره، وحين يَسأل “الولد” لماذا، من الجائز جداً أن يرد عليه والده: هكذا، لأنني قلت، أنا الأب وأنت الابن الملتزم بالسمع والطاعة. لذا، ليس من المستغرب أن يطرد وزير، مجرد وزير، موظف في الدولة يفترض أنه أتى من الشعب وبقرار هذا الشعب وبدفع منه، مواطناً من أرضه ووطنه؛ فالوزير مسؤول، والمسؤول والد، قراراته نافذة، حلاله ملزم وحرامه يورد الجحيم.
وفي خضم التيه الذي نعيش، في هذا المحيط المخضب بدماء أهل غزة، يطلق وزير الداخلية الليبي عماد الطرابلسي هكذا تصريحاً متضمناً أن الحرية والديموقراطية هما ديدن المجتمعات الأوروبية، ذات المجتمعات التي تسودها اليوم حكومات تعرت متبولة أمام العالم أجمع على مفاهيم الحرية والعدالة والحقوق الإنسانية التي طالما تغنت بها. أين يتركنا هذا التناقض؟ أهذه الحكومات الطاغية المتجبرة التي تغسل دولاراتها كل يوم بدماء أطفال غزة ستكون أرحم بنا وأكثر احتراماً لحيواتنا وحرياتنا واختياراتنا؟ أين الصح وأين الخطأ؟ أهذا هو آخر الحياة، اختيار بين أوروبا التي تقتل أبناءنا، أو حكوماتنا التي تخنق حرياتنا؟ أي عقل ومنطق يمكن رصده في هكذا تصريح، من وزير، في حكومة “وحدة وطنية؟”. مخنوق أنت لو كنت “متلبرلاً”، ومخنوق أنت لو كنت محافظاً. فمثلما يهدد الوزير الليبي هؤلاء الذين يتجرأون فيصففون شعورهم بطريقة معينة، أو تلك التي تسافر بلا محرم، أو هؤلاء الذين يدخنون الشيشة، يهدد غيره من الوزراء هؤلاء الذين يروجون للفكر المحافظ ويذكرون بالالتزام الديني؛ ما يجعل المساحة التي يمكن لك الوقوف عليها آمناً ضيقة جداً، هو مربع صغير ترضخ فيه اختياراتك الشخصية للتوجهات الحكومية، ولو تجرأت فتخطيت أحد أضلاع المربع، فسَيُحتفى بك “بسلام مربع”، لتجد نفسك إما محبوساً أو مطروداً: إذا لم يعجبك “اذهب إلى أوروبا”. ورغم أهمية وإلحاح الحريات الشخصية، فهي تلك التي تؤثر في حياتنا بشكل يومي وتتداخل وكل دقائقها وتفاصيلها، رغم ذلك فإنني شخصياً أرى أنها أقل أهمية من الحريات السياسية، فالأولى نتاج الحريات الثانية، حيث لا يستتب الأمر لأي نوع من الحريات أو الحقوق بلا ضمان الحريات السياسية: حكم الشعب لنفسه، مشاركته الفاعلة في صنع القرار، قدرته على النقد والاعتراض بلا أي مخاوف أو تهديدات. في عالمنا العربي، عزيزة هي الحريات السياسية. ولذا، وبلا شك، هلامية هي الحريات الشخصية، هي في يدك اليوم، وغداً ترفرف على أعلى جذوع الأشجار. ولنا في إسلاميي المنطقة عظة وعبرة، والذين انقلبت بهم الحال بين ليلة وضحاها، حيث لا يعز مصيرهم على نظرائهم الليبراليين الذين يجدون الرياح تواتيهم هذه الأيام، فيهللون لـ “الديكتاتورية المتنورة” وينسون أنها ستلف وتدور وتعود لهم من حيث لا يعلمون.
ليبيا تعود أدراجها للديكتاتورية المحافظة، ليطرد وزيرها مواطنيها إن لم تعجبهم حال قراراته، لكنها في ذلك صنو الدول ذات الديكتاتوريات المتحررة، التي هي ليست أرحم بمواطنيها من نظيراتها المحافظة. لقد حكمنا على أنفسنا بالتأرجح على أرجوحة المصلحة السياسية حين قدمنا الحريات الشخصية على السياسية، حين سلمنا أمر مصير دولنا وتصارعنا على حرية تدخين شيشة أو تطويل لحية. وها هو الأمر وصل إلى أن يخاطب وزير شعبه بجملة كليشيهية ركيكة يتداولها العامة العنصريون حين يريدون إغاظة بعضهم بعضاً: لا يعجبك، “اذهب إلى أوروبا”. نحن من طبخ هذه الطبخة، وقد حان موعد أكلها بكل سمومها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية