لا شك في أن كأس العالم لكرة القدم يعد أهم حدث كروي في عالم الرياضة، واحتضان بطولة بهذا الحجم أمر تتصارع الدول للفوز به، وهذا ما حدث قبل حوالي اثنتي عشرة سنة عندما قرر اتحاد كرة القدم العالمي «فيفا» إقامة بطولة كأس العالم في قطر عام 2022. منذ تلك اللحظة انطلقت صراعات على هامش الرياضة حول ما سيكون عليه الحال في دولة صغيرة، شرق أوسطية، عربية، مسلمة، وبالتالي فتحت أنواع الملفات، كلها أو أغلبها تمحور حول الدين والسياسة وإمكانيات قطر على التعاطي معها مثل باقي الدول التي احتضنت المونديال سابقا.
وصف مسؤولون قطريون الآراء السلبية التي وجهت لدولتهم قبل انطلاق فعاليات المونديال في تشرين الثاني/نوفمبر الجاري بالقول: إن»الكثير من التغطية السلبية كانت ذات دوافع عنصرية، أو معادية للإسلام»، ما اعطى انطباعا للمتابع أن هذا المونديال سيكون أول حدث رياضي عالمي في التاريخ سيكون الدين وفهمه جزءاً رئيسيا من السياق العام لهذه الفعالية الرياضية، وقد انصبت الإشكاليات «الدينية» حول بعض السلوكيات والمفاهيم التي بات الغرب يتبناها، وتتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي مثل شرب الكحول، والموقف من المثلية الجنسية، وبعض السلوكيات المرفوضة في الأماكن العامة التي يكون فيها اختلاط بين الجنسين.
ويتضح موقف اتحاد كرة القدم العالمي «فيفا» من الإشكاليات السياسية والدينية واضحا، إذ حثّ كبار مسؤولي الاتحاد الفرق المشاركة في كأس العالم على التركيز على اللعبة في مونديال قطر، وتجنب إعطاء دروس في الأخلاق. كما أرسل رئيس الـ»فيفا» جياني إنفانتينو والأمينة العامة فاطمة سامورا خطاباً يحث الفرق على «ترك كرة القدم تحتل مركز الصدارة» وأضاف، إنفانتينو طالباً من اتحادات كرة القدم في الدول الـ32 المشاركة في المونديال «عدم السماح بجر كرة القدم إلى كل معركة أيديولوجية أو سياسية موجودة». وقد أعرب إنفانتينو في دفاعه عن أول دولة مضيفة لكأس العالم من منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا عن أسفه لموجة الانتقادات التي تلقتها قطر، على هامش الحدث الرياضي الأول في العالم. بعد أن عاش هو شخصيا في قطر معظم العام، كما وصف المدير التنفيذي لـ»فيفا» بعض النقاد بأنهم «غير عادلين للغاية» ووصف ما حدث بأنه «نفاق» الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة التي تملي معاييرها الأخلاقية (التي غالبا ما اكتسبت مؤخرا) على الدولة الخليجية. وجاءت ردود أفعال بعض مؤسسات الإعلام الغربي الكبيرة غاضبة على تصريحات إنفانتينو. فقد وصفت شبكة «سي أن أن» تصريحاته بأنها «خطبة متفجرة»، ووصفتها «ياهو نيوز» بأنها «فظة ومثيرة للغضب»، بينما اعتبرتها صحيفة «الغارديان» «هجوما غريبا على النقاد». وقد اعتبر بعض المراقبين أن افتتاح مونديال قطر قد احتوى صبغته الدينية المغايرة للمونديالات السابقة، إذ تمت قراءة الآية الثالثة عشرة من سورة الحُجُرات: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وجاء هذا الامر في سياق الحديث عن الأخوة الإنسانية، في عرض خطابي جمع الممثل الأمريكي مورغان فريمان، والشاب القطري غانم المفتاح، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وناشط مؤثر في مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي محاولة لاستيعاب قطر للنقد الموجه لسلوكيات المؤسسات الرسمية أثناء المونديال، صرح مسؤولون قطريون، بأن «البيرة ستباع داخل الصالات وسيُسمح بالشرب داخل مناطق مخصصة، مثل مناطق المشجعين والفنادق والمطاعم»، علما أن قوانين دولة قطر تحضر بيع الكحول، كما تم وضع لوحات إعلانية في جميع أنحاء البلاد عليها اقتباسات من أحاديث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) التي تحض على الأخوة والسلام لتقديم صورة مغايرة للآخر تكسر الصورة النمطية عن الإسلام. لقد وضعت وكالة أسوشيتد برس، في مكاتبها في جميع أنحاء العالم، شرحا مميزا تحت عنوان: «شرح الإسلام في قطر قبل كأس العالم لكرة القدم»، وقد بدا ذلك أمرا مهما للمحررين والمراسلين وكذلك المشجعين والزوار. مثال ذلك ما ورد في أحد الكتيبات التعريفية: «قطر دولة مسلمة، لها قوانين وعادات وممارسات متأصلة في الإسلام. الدولة ليست ليبرالية مثل دبي في الإمارات العربية المتحدة، ولا محافظة مثل أجزاء من المملكة العربية السعودية. معظم مواطنيها من المسلمين السنة». منصات التواصل الاجتماعي اشتعلت أثناء هذا المونديال بشكل مختلف، إذ لم ينصب الاهتمام على أداء الفرق المشاركة، إنما كان التركيز على الأبعاد الأيديولوجية والدينية وحتى الطائفية في مواجهات الفرق. وقد لخص أحد الأصدقاء على صفحته في فيسبوك أزمة مونديال قطر والتعاطي معه بقوله، «مونديال قطر، بالنسبة لي هو مونديال العداء والكراهية ليس أكثر، في كل نسخ المونديال السابقة كان حديث الناس يدور حول المباريات وجمال المشجعين، وأداء اللاعبين والفرق، إلا هذا المونديال فمرة ترى ناس تكره قطر، وتتكلم عن كل شيء سلبي فيها، وكأنه لا يوجد شيء إيجابي، أو جميل في هذه الدولة، ومرة ترى أناسا يكرهون الغرب، وكل ما يقال أو يكتب يعتبرونه عداء للعرب والإسلام والمسلمين، وتجاوزا على ثقافتهم وخصوصيتهم. الناس تركت روعة الجمهور الياباني، وجمال الكروات، والأداء البطولي للمنتخبات المتواضعة، وركزت على مسائل الكراهية والانتقاد والشماتة والشتائم».
استضافة كأس العالم، في دولة عربية وإسلامية، يوحي بأن الحدود الاستعمارية لم تعد خطوطا حمرا مقدسة لا يمكن كسرها
المفارقات الطائفية انعكست في تعاطي البعض مع نتائج بعض المباريات مثل خسارة إيران الكبيرة بستة أهداف مقابل هدفين أمام إنكلترا، إذ امتلأت منصات التواصل بالشماته في أداء إيران، بينما ركز البعض على الموقف الشجاع للاعبي المنتخب الإيراني الذين امتنعوا عن ترديد النشيد الوطني الإيراني تضامنا مع حركة الاحتجاجات المندلعة في إيران، بينما جاءت التصريحات الإيرانية الرسمية مضحكة عندما اعتبرت الأمر مؤامرة غربية على إيران. إذ كانت صحيفة «كيهان»، المقربة من المرشد خامنئي، فجة في تناول ما حدث في مباراة إيران وإنكلترا، وقد هاجمت الصحيفة في عدد يوم الثلاثاء 22 تشرين الثاني/نوفمبر، اللاعبين الإيرانيين وجردتهم من «الغيرة» الوطنية بعد رفضهم ترديد نشيد إيران الوطني، كما ادعت أن اللاعبين تأثروا سلبا بالدعاية الإعلامية التي انتشرت على نطاق واسع في الإعلام الغربي والعربي والإسرائيلي ضد المنتخب الوطني الإيراني، وعنونت المانشيت الرئيس لها: «إيران 2، وإنكلترا والسعودية وإسرائيل والخونة الداخليون والخارجيون 6»، مدعية أن كل هذه الدول قد توافقت وعملت على هزيمة المنتخب الإيراني.
في المقابل اعتبر البعض المفاجأة الكبيرة عندما فاز المنتخب السعودي على نظيره الأرجنتين بهدفين مقابل هدف واحد، بأن ما حصل نصر للإسلام والمسلمين، وقد ذهب البعض بعيدا وشبه المباراة بأنها نوع من الفتوحات الإسلامية! وعادت التصريحات (الأيديولوجية الدينية) للواجهة مرة أخرى، عندما فاز المنتخب الإيراني على منتخب ويلز بهدفين مقابل لا شيء، إذ انهالت التهاني على الجهات الحكومية الرسمية الإيرانية بتحقيق هذا الإنجاز الكبير لدولة الإسلام في إيران. في ورقتهما «القوة والمقاومة في إدارة كرة القدم العالمية»، ناقش جون سوغدن وألان توملينسون الفكرة القائلة إلى أي مدى يمكن اعتبار اتحاد كرة القدم العالمي «فيفا» كيانا عابرا للحدود، يمكن استخدامه كقوة موازنة من الدول النامية التي عانت طويلا من الاستعمار. وقد حذّر سوغدن وتوملينسون بشكل صحيح من مثل هذا التفسير للمنظمة الدولية لكرة القدم، عندما جادلا بأن كرة القدم هي في جوهرها لعبة أوروبية مميزة، وأنه «عبر لعب كرة القدم الدولية، تؤكد البلدان خريطة اجتماعية وسياسية فرضها العالم الأول». لكن يجب أن نلفت النظر ونحن نتحدث عن مونديال قطر، إلى أن تصميم الـ»فيفا» على اجتياز أحد آخر الجسور الحضارية المتبقية في الرياضة العالمية، وقد أشار قرار الـ»فيفا» إلى الفرصة التاريخية التي حصلت عليها دولة خليجية صغيرة لإعلان هويتها الحضارية، بعيدا عن الصورة النمطية الاستشراقية طويلة الأمد التي ستغير التصور العالمي للعالم العربي والإسلامي، وإن استضافة كأس العالم، في دولة عربية وإسلامية، يوحي بأن هذه الحدود الاستعمارية لم تعد خطوطا حمرا مقدسة لا يمكن كسرها.
كاتب عراقي
معظم العلاقات الدولية نفاق بنفاق !
أما الرياضة فمجرد أهداف !!
ولا حول ولا قوة الا بالله