تقول الأسطورة أن بروميثيوس الطيَب وبعد أن سرق شعلة المعرفة من الآلهة ليعطيها للبشر الساكنين في الكهف المظلم في ذلك الوقت، عوقب بأن عُلِّق على جبل القوقاز عارياً، بينما النسر الإلهي يأكل كبده. و حتى يدوم عقابه للأبد، فقد أمر زيوس بأن يُخلق له كبدٌ جديد كلما فنى واحد.. هكذا تحمّل بروميثيوس ثمن محبته للبشر وثمن إنتقال المعرفة البشر، فحينما أضاءت النار المقدسة الكهف المظلم، تفجر الإبداع والخلق لدى الإنسان الأول ليخرج من عالمه المظلم المليء بالجهل والأشباح نحو عالم الوجود الحقيقي، عالم الفكر والبحث عن الحقيقة والتواصل مع عالم الملكوت. بروميثيوس كان يعلم انه سيعاقب لأنه كشف أحد أسرار الآلهة، ولكنه لم يبالي، فحبه للإنسان كان أقوى وتطلعه للحرية والعدالة كان الأهم بالنسبة له، أهم من مصيره المحتوم، هذا الحب الذي قاده للتمرد على القيود التي كانت تحيط بكل شيء والتي كانت تكبل كل صوت للحرية وللمعرفة. إن قضية شعبنا وبرومثيوس هي قضية واحدة، فما إن أنار هذا الشعب طريق الحرية والكرامة حتى عوقب أشد عقاب، فهاهو اليوم يتخبط في مشاكل لا حصر لها، لا إستقرار ولا تنمية ولا تواصل بين مكوناته ولا كرامة ولا تشغيل، وها أننا نرى عبدة الضلام ينتقمون منه أبشع إنتقام، مع أن معظمهم من أبناءه، فهو الذي ضحى من أجلهم وأخرجهم من غياهب السجون وأعادهم من منافيهم، وهاهم بكل ما أوتوا من قوة مرة أخرى يحاولون إطفاء شعلة بروميثيوس التي تسعى ان تنير طريقه نحة الغد الأفضل. إن المعرفة هي سر الوجود والفكر هو محرَك الذات وملهمها وقائدها التطلع للغد الأجمل،فالفكر وحده هو سر فرح الإنسان وهو وحده سر شقاءه، فإن وظَف الفكر ليتكامل مع العقل وليدفعه للغوص في الحقيقة والبحث عن الذات وعدم التوقف عن السؤال فإنه يكون مجددا مطورا للوعي قادرا على أن يحتضن الأمس واليوم والغد معا، وإذا ما وظَف الفكر لإلغء التفكير و العقل، فإنه يلغي مع العقل كل معاني الوجود، فينقلب الوعي إلى غريزة تحكمها التقاليد ويسيرها الجهل ليكون سبب شقاء الإنسانية بدل أملها ونجاحها. ومع مرور السنين لا يزال الكثيرون يحاولون الهروب من الكهف المظلم ويحاول البعض العودة بمشعل بروميثيوس ولا يزال رهبان تاناتوس يحاولون إطفاء الشعلة قبل أن تدخل بكل ما أوتو من قوة،فدخول الشعلة وسطوع ضوء الحرية قد يقضي عليهم وعلى تدبيرهم، فيترجمونه تكفيرا وتشويها لكل من يسعى أن يضيء الكهف ثم إلى قتل عمد تحت تهليل الجماعة والأشباح وتصفيقهم، وإلى تعذيب لا نهاية له كتعذيب بروموثيوس. إن صراع المرحلة في عالمنا العربي هو الخروج من الكهف المظلم وهذا لا يمكن أن يكون إلا عندما تسقط قدسية الضلام وثقافته، يومها يسقط الراهب الأعظم لمعبد تاناتوس الذي نصَب نفسه وسيطا بين الله والإنسان، هذا الوسيط الذي مرة يلبس زي الإمارة ومرة زي العالم بالدين ومرة زي الرجل الصالح وفي الحقيقة هو مجرد وسيط مستغل لبساطة أهلنا، يعدهم بالغد الجميل إذا ما إنساقوا إلى معسول كلامه وهو في الحقيقة يعيش حياة البذخ بكل ما تعنيه،يلقي أبناء البسطاء والفقراء في المحارق باسم القداسة بينما ينعم أبناؤه بالحياة والدراسة في بلدان الغرب الكافر.. ولا يزال هذا الوسيط يشوه ويكفر ويسب كل صوت باحث عن الحقيقة دافعا للتأمل والبحث والتفكير، ولا يزال هذا الوسيط يخلط المعاني والأفكار فقط ليشوهها امام العامَة، فيخلط بين السياسي والإقتصادي والإجتماعي والديني، فيربط مثلا العلمانية secularism بالإلحاد Atheism، ويربط بين المفاهيم السياسية من يمين ويسار بالكفر دون أن يدرك أن فكره الحزبي ليس إلا من فكر أقصى اليمين الراديكالي النازي الذي يعتمد تقسيم المجتمع الواحد إلى مواطنين درجة اولى متمتعة بكل الحقوق ودرجة ثالثة لا تملك حتى حق الوجود، ويربط بين الإقتصاد الرأسمالي المتوحش بالدين بدعوى حرية رأس المال، ويشيطن إختلاف الآخر ويكفَره حتى وإن كان الآخر اخا أو أبا أو أما،فيشرع لقتله ولتدميره وتقديمه لقمة سائغة للوحش المتربص على الحدود. إنتهت مأساة بروميثيوس عندما أنقذه هيراكليس من براثن النسر وخلصه في طريق إنقاذه لجبل اولومبوس، ومازالت السنين تمر ولا تزال شعوبنا تنتظر هيراكليس جديد ينقذها ويقضي على سلطة تاناتوس التي جعلت الناس أمواتا في حياتهم، ولا يزال الكهف مظلما رغم أن نور الشمس بدأ يمر بين الصخور ليعانق الأنفس التي كرهت الرطوبة والسواد. عبد القادر معيوف