فيما تدور الألعاب الأولمبية في طوكيو، يؤسفنا أن لبنان قد فاز بميدالية ذهبية وأخرى برونزية في حقلين يفضّل أي شعب ألا تشارك بلاده في مباراتهما.
فقد فاز بالميدالية الذهبية عندما شهد، في مثل هذا اليوم قبل سنة، أعظم انفجار غير نووي في القرن الواحد والعشرين (يليه من حيث العنف انفجارٌ في قبرص في عام 2011 وآخر في الصين في عام 2015) وهو سادس أسوأ انفجار غير نووي في التاريخ. كما فاز لبنان بميدالية برونزية بتحقيقه المرتبة الثالثة بين أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم منذ استشراء النمط الاقتصادي الرأسمالي في أواسط القرن التاسع عشر، حسب أحدث تقرير صادر عن مرصد الاقتصاد اللبناني لدى البنك الدولي. والحقيقة أن ذينك الرقمين القياسيين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بإنجاز آخر يصعب تقديره، بيد أن لبنان مرشّح قوي للحصول على الميدالية الذهبية في مجاله: عنينا لامبالاة «المسؤولين» إزاء معاناة الشعب.
فنادراً ما شهد التاريخ طبقة حاكمة كالتي تتحكّم بمصير لبنان وسكّانه، تصرّ على تضييع الوقت بالمتاهات بينما تغرق البلاد ويختنق أهلها. وهذا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة الطبقة الحاكمة اللبنانية من منظور الاقتصاد السياسي. فيكاد لا يوجد بين الأطراف الرئيسية لتلك الطبقة من يعتمد على قاعدة اقتصادية محلّية بما يجعله حريصا على إخراج البلاد من أزمتها. وهذا لا ينطبق على القوى السياسية المموّلة رسمياً من الخارج على غرار «حزب الله» وحسب، بل حتى على «رجال الأعمال» إذ إن إحدى خصوصيات الحالة اللبنانية أن كبار الرأسماليين فيها لا يشكّل لبنان ساحتهم الاقتصادية الرئيسية، بل لا يعدو في أحسن الأحوال كونه مركزاً تسمح حالة الغاب القانونية التي تميّزه بالتهرّب من القيود والضرائب التي قد تفرضها مراكز أخرى.
لبنان وطن تسوده طبقة حاكمة لا جذور راسخة لها في البلاد، طالما عاش تحت وصايات خارجية تقاسمت النفوذ عليه، كانت آخرها زمنياً الوصايتان الأمريكية والإيرانية
فلو نظرنا إلى أثرى رجلي أعمال في حقل السياسة اللبنانية، وجدنا أن أثراهما وهو رئيس الوزراء المكلّف الحالي نجيب ميقاتي، هو من كبار المساهمين في «شركة الإنشاءات العربية» إحدى أهم شركات المقاولات في المنطقة العربية، لا يشكّل لبنان سوى جزء يسير من ساحات نشاطها. كما يسيطر نجيب ميقاتي مع شقيقه طه على الشركة القابضة M1 التي تُعدّ إحدى أكبر الشركات العربية وتعمل في شتى ربوع العالم (لفت الأنظار مؤخراً تعاونها مع الزمرة العسكرية الحاكمة في ميانمار، وقد أدانته منظمات حقوق الإنسان).
أما رجل الأعمال الثري الآخر في السياسة اللبنانية، فهو بالطبع سعد الحريري، وقد دخل الحقل السياسي إثر وفاة والده وبالنيابة عن عائلته التي كلّفته بالمهمة بينما حفظت حصته من الثروة العائلية. وقد شكّلت شركة «سعودي أوجيه» مؤسسة الأعمال الرئيسية لدى آل الحريري، وهي أيضاً شركة قابضة ذات نشاطات إقليمية ودولية، غرقت في عام 2017 بسبب سوء إدارتها. جرى ذلك بينما كان الاقتصاد اللبناني يغرق هو أيضاً في ظل رئاسة سعد الحريري لمجلس الوزراء، وكان قد عاد إلى هذا المنصب في آخر عام 2016 وبقي فيه مدة ثلاث سنوات حتى استكمال الانهيار الاقتصادي.
فلبنان وطن تسوده طبقة حاكمة لا جذور راسخة لها في البلاد، طالما عاش تحت وصايات خارجية تقاسمت النفوذ عليه، كانت آخرها زمنياً الوصايتان الأمريكية والإيرانية. وقفت الأولى وراء الوصاية السعودية داعمة لها بعد تسوية الطائف، إلى أن قررت الرياض نفض يدها مما يجري في لبنان قبل ثلاث سنوات. أما الوصاية الإيرانية فقد وقفت وراء الوصاية السورية داعمة لها، حتى حلّت محلّها إثر وقوع سوريا ذاتها تحت وصاية طهران إثر الحرب التي عصفت بها بعد الانتفاضة التي شهدتها قبل عشر سنوات. وتتميّز الطبقة الحاكمة اللبنانية بأنها تحصل على دولارات «طازجة» من الخارج، سواء من الدولة الأجنبية التي تتبع لها، مثلما هي حال «حزب الله» إزاء إيران، أو من أعمال ترتهن إلى حد بعيد بالدول الخليجية العربية. وهذا ما يفسّر اللامبالاة القصوى التي تظهرها تلك الطبقة الحاكمة إزاء المأساة العظيمة التي يعاني منها شعب لبنان.
أما المشروع الفرنسي في التوفيق من جديد بين أطراف تلك الطبقة الحاكمة من أجل أن تستعيد فرنسا حصة جديرة بالذكر في الوصاية على لبنان، فهو لا زال محكوماً بالفشل ما دامت الوصايتان الأمريكية والإيرانية لم تصلا إلى اتفاق بينهما مثلما كان محكوماً بالفشل في البداية («فرنسا ووهم الاستعمار المستدام» «القدس العربي» 1/9/2020). والحال أن الأمور في هذا الصدد قد تعقدت أكثر مما كانت عليه بالرغم من حلول جو بايدن محل دونالد ترامب في كرسي الرئاسة الأمريكية، إذ إن حلول إبراهيم رئيسي محل حسن روحاني في كرسي الرئاسة الإيرانية جاء يعكس تصلّباً في الموقف الإيراني أبطل مفعول التحوّل الأمريكي إلى حد بعيد. وبغياب توافق بين الوصايتين، فإن أي إجراءات قد تشهدها الساحة اللبنانية لن تكون سوى إجراءات تخفيفية مؤقتة على غرار جرعات مورفين تُحقن في مريض ينازع على سرير الموت.
كاتب وأكاديمي من لبنان
شكرًا أخي جلبير الأشقر. وتحية إلى قلمك الحر الذي لايتبع سوى الحقيقة. السؤال الملح طبعًا إلى متى سيستمر أولمبياد الميداليات في لبنان، ميدالية أسوأ رئيس لبناني وأسوأ حكومة وأسوأ برلمان وأسوأ أحزاب وأسوأ نخبة سياسية في العالم كلها حصدوها ماشاء الله عليهم، المشكلة أن مرآة الميداليات في لبنان معكوسة وتسير نحو الأسفل وحيث لانهاية في الأفق!