باريس- “القدس العربي”:
في حين أن أوروبا تتخذ قرارا عشوائيا بشأن تدابير غلق كاملة إلى حد ما -حظر التجول في فرنسا أو بلجيكا أو إيطاليا، وإغلاق المناطق الحضرية في إسبانيا، والسفر يقتصر على خمسة كيلومترات في أيرلندا، وقيود أخرى على السفر في جمهورية التشيك– فإن الموجة الموجة الثانية لوباء كورونا تهدد بتعزيز الانقسامات الاجتماعية التي تعبر القارة العجوز.
موقع ميديابارت الاستقصائي الفرنسي أوضح أن طلابا وباحثين في مدرسة باريس للاقتصاد حددوا، في دراسة مكرسة للحالة الفرنسية، ارتباطا “قويا ومنهجيا” بين الوفيات الناجمة عن وباء كورونا، خلال فصل الربيع، ومستوى الفقر في البلديات (+ 88% وفيات في أكثر المناطق فقرا، مقابل + 50% في أماكن أخرى). ويطالب هؤلاء الطلاب بحماية أفضل للعمال المعرضين للخطر أكثر من غيرهم في المدن الفرنسية، ولكن أيضا بتحسين ظروف سكنهم على المدى المتوسط. وتحدث عالم أوبئة لدى منظمة أطباء بلا حدود في نفس الاتجاه، حيث رأى أنه “يجب علينا تحسين ظروف السكن للأشخاص غير المستقرين، من خلال مكافحة الاكتظاظ، للحد من انتشار الفيروس”.
وخارج فرنسا، يشير “ميديا بارت”، احتدم النقاش حول هذه القضايا، واتخذ أحيانا شكل جدال مرير بين السلطات المركزية والمحلية. ففي العاصمة الإسبانية مدريد، يتحدث البعض عن إجراءات “وصم الفقراء”. ومع أن رئيس الحكومة بيدرو سانشيز قال في أحد تعليقاته بتاريخ 18 مارس/ آذار: “لا يفرق الفيروس بين الأيديولوجيات والطبقات والأقاليم – إنه يصيبنا جميعا”، إلا أن تسلسل الأحداث في إسبانيا أظهر مدى خطأ رئيس الحكومة الاشتراكية.
فكما هو الحال في أماكن أخرى في أوروبا، فإن أحياء الطبقة العاملة في إسبانيا هي الأكثر تضررا من جراء فيروس كورونا. وتظهر واحدة من أخطر الدراسات حول هذا الموضوع تتعلق بالموجة الأولى أن منطقة نو باريس الشعبية في مدينة برشلونة، التي يصل فيها متوسط الدخل 28 ألف يورو سنويا، سجلت معدل 75 حالة لكل 10 آلاف نسمة من السكان. مقابل 29 حالة فقط في ساريا سانت جيرفاسي، التي يصل فيها متوسط الدخل أكثر من 65 ألف يورو سنويا.
يبدو أن الأمور استمرت على هذا النحو خلال الموجة الثانية للفيروس، بل ازداد الحال صعوبة بالنسبة للفقراء. فمنذ نهاية أغسطس/آب الماضي، فإن البلديات في جنوب مدريد هي التي ينتشر فيها الفيروس بشكل أسرع. وفي حين أن انتشار الفيروس يستغل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية في منطقة مدريد، وضعت El País ”كوفيد من الأغنياء” في مواجهة “كوفيد من الفقراء”.
إذا كانت الموجة الأولى للفيروس قد ضربت أكثر كبار السن، فإن الموجة الثانية ضربت أكثر الأشد فقرا
وتذهب El Confidencial إلى أبعد من ذلك: “إذا كانت الموجة الأولى للفيروس قد ضربت أكثر كبار السن، فإن الموجة الثانية ضربت أكثر الأشد فقرا. وفي هذا السياق، توضح الأكاديمية ماريا غراو: “في المناطق ذات الدخل المنخفض، يحصل الناس على وظائف لا يمكن القيام بمعظمها عن بُعد”، وتؤدي استحالة العمل عن بُعد، على سبيل المثال، إلى زيادة استخدام وسائل النقل العام، وبالتالي زيادة خطر التعرض للفيروس.
بالإضافة إلى ذلك، هناك ظروف عمل أكثر صعوبة، على سبيل المثال، عمال المسالخ أو العمال غير المستقرين، فهؤلاء غالبا ما يكونون في بيئة مغلقة. وغالبا ما تُطرح عوامل أخرى: اختلاط أماكن المعيشة، ولكن أيضا قيود العمل غير الرسمي. وبالتالي، فإنه “لا يكفي إخبار الناس بأنهم بحاجة إلى البقاء في الحجر الصحي، يجب أن يكونوا قادرين على القيام بذلك” تضيف ماريا غراو، مشددة على أن أي شخص لا ينبغي أن يكون في وضع يتعين عليه فيه الاختيار بين صحته ووظيفته”.
وتؤكد التقارير على أهمية الاقتصاد غير الرسمي في المدن الأكثر تضررا في منطقة مدريد، حيث يوجد على الخطوط الأمامية مهاجرون من أمريكا اللاتينية لا يملكون في الغالب بطاقات إقامة. وترسم El Confidencial صورة مركبة لغالبية الأشخاص الذين يتلقون العلاج هذه الأيام بسبب كورونا: “الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و60 عاما، من أصل مهاجر، يتشاركون في الغالب مساكن غير صحية، ويعملون في ظروف غير مستقرة، ويأكلون بشكل سيئ، ويستخدمون القناع نفسه طوال الأسبوع لأنهم لا يستطيعون شراء المزيد، ويرفضون الذهاب إلى المراكز الصحية خوفا […] من نقل بياناتهم إلى الشرطة”.
في مواجهة هذا الواقع، أصدرت رئيسة منطقة مدريد إيزابيل أيوسو دياز مرسوما، في منتصف شهر سبتمبر/أيلول، بـ “الحجر الانتقائي”، بمعنى آخر إعادة احتواء 885 ألف مواطن في ست مناطق بالعاصمة وسبع بلديات أخرى في المنطقة (سُمح لهم بمغادرة منازلهم فقط للذهاب إلى العمل أو الدراسة، عند تقديم إثبات). هذا الإجراء، أثار موجة من الاحتجاج – وبعض المظاهرات – من قبل معارضيه الذين استنكروا شكلا من أشكال الفصل ووصم أحياء الطبقة العاملة.
ويواصل المهنيون الصحيون المطالبة بإجراءات هادفة، ولكن أقل عقابية، وذلك بتسليم الأقنعة لأكثر الحالات خطورة أو التثبيت السريع للأشخاص الذين تم اكتشاف إصابتهم في غرف الفنادق الفردية حتى لا يتسببوا في نقل العدوى إلى باقي أفراد الأسرة في هذه الأحياء الشعبية.
نحو “تدابير متباينة” من أجل “المنطقة الفقيرة” في بروكسل؟
أما بلجكيا فتشهد هذه الأيام تسارعا جديدا للوباء (300 حالة دخول يومية إلى المستشفى)، مع ارتفاع واضح في مقاطعة لييج، في جنوب شرق البلاد.
وفقا للإحصاء الصادر في 23 أكتوبر/تشرين الأول من قبل معهد Sciensano، فإن أفقر البلديات في منطقة بروكسل، بما في ذلك مولينبيك وأندرلخت، هي التي تسجل عددا من الحالات.
لكن جويل جيريس، عالم الاجتماع في الجامعة الحرة ببروكسل، حذر من مغبة الاستنتاجات المتسرعة، لأن الإحصائيات البلجيكية هشة وسياسات الاختبار تختلف من بلدية إلى أخرى. وفي هذه المرحلة، يأتي اليقين من دراسة نُشرت في 14 تشرين الأول (أكتوبر)، والتي أظهرت أن هناك زيادة واضحة في الوفيات بين الطبقات العاملة في جميع أنحاء بلجيكا. وقد قامت بها مؤسسة Solidaris، وهي شركة بلجيكية مشتركة (ما يعادل التأمين الصحي في فرنسا). وأثبتت هذه الدراسة أن معدل الوفيات ارتفع بنسبة 70 % من مارس/آذار إلى مايو/أيار، مقارنة بنفس الفترة على مدى السنوات الخمس الماضية، للأشخاص الذين يستفيدون من معدل تفضيلي للمشتركين، بسبب وضعهم الاقتصادي. مقابل 45% للآخرين الذين لديهم موارد أعلى.
وعلى مستوى الطبقة السياسية فإن السلطة التنفيذية الجديدة، التي تشكلت في بداية أكتوبر من تحالف غير متجانس للغاية، شددت في بيانها الحكومي، على الحاجة إلى مراعاة الأسئلة الاجتماعية في الرد على فيروس كورونا – دون ترجمتها، حتى الأمر بأي شيء ملموس.
عمدة مانشستر الكبرى يدعو لخطة مساعدة للمناطق الشمالية الفقيرة في بريطانيا
في المملكة المتحدة، لا تبدو جغرافية الوباء استثناء: الأحياء الأكثر شعبية هي الأكثر تضررا. في منطقة ليفربول (شمال غرب)، فإن ثلثي المناطق الأكثر تضررا من الوباء هي من بين أفقر 10% من الأراضي في إنكلترا، وفقا لمسح أجرته صحيفة الغارديان مؤخرا، والتي جمعت أرقاما من وزارة الصحة البريطانية. وفي مانشستر وبرمنغهام، نصف الأحياء الأكثر تضررا هي أيضا من بين أفقر الأحياء في البلاد: 42% من المناطق الأكثر تضررا من فيروس كورونا.
وكما هو الحال في أي مكان آخر، فإن الكثافة السكانية في هذه الأحياء والطبقة العاملة وكذلك استحالة العمل عن بعد للعديد من هؤلاء السكان، هي عوامل تساهم في انتشار الفيروس. يؤثر مقدار الدخل أيضا على قدرة العمال الذين ثبتت إصابتهم بعزل أنفسهم حقا في الحجر الصحي، نظرا لانخفاض مستوى المساعدة المدفوعة للإجازة المرضية.
كان من الممكن أيضا أن يعاني شمال إنكلترا من عودة متسرعة إلى الحياة الطبيعية، في أعقاب الحجر الصحي الربيعي: في حين أن الوضع في لندن قد تحسن بشكل ملحوظ، كان المراقبون قلقين بشأن آثار الرفع السريع للغاية للحجر في شمال إنكلترا. وهكذا، أدت إدارة الأزمة الصحية في المملكة المتحدة إلى إحياء خط فاصل قديم في السياسة الوطنية، بين شمال إنكلترا مع جذور الطبقة العاملة والمهملة إلى حد ما، والجنوب الأكثر ثراء، حول لندن، والذي يجذب رأس المال الأجنبي، جزئيا بفضل صناعته المالية. في منتصف أكتوبر، كانت 11% من الاختبارات في الشمال الشرقي والشمال الغربي إيجابية، مقارنة بـ 5.7% في لندن الكبرى، وأقل من 3% في الجنوب.
هذه التداعيات الاجتماعية شبه الكارثية تنطبق على العالم الغربي ذي الاساسيات الاقتصادية القوية والجهاز الحكومي المتين والموازنة العامة الحصيفة وشبكة الامان الاجتماعي الفعالة والظروف الاولية الملائمة، فما بال عالمنا العربي الذي لا تتوفر فيه هذه السمات، ويعاني الامرين حتى قبل الموجة الاولى؟ والبعض يزعم ان الحلول البيروقراطية والاستبدادية التي شكلت الوضع المأساوي العربي قبل كورونا هي الحل؟!