بدأ طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية، في 18 من الشهر الجاري، اعتصاما في حديقة الحرم الجامعي، احتجاجا على استثمارات مالية للجامعة في شركات تدعم احتلال فلسطين، ثم امتدت المظاهرات الى جامعات مثل نيويورك وييل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة نورث كارولاينا وتكساس. وقد ألهمت هذه الفعاليات طلاب جامعات أخرى في فرنسا ومصر وتركيا، فقرأنا أمس أن طلابا في جامعة السوربون نفذوا احتجاجا خلال حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأن طلابا مصريين في الجامعة الأمريكية تعرّضوا لعنف مفرط ردا على احتجاج محدود خلال إحدى الفعاليات.
علّق ايتمار بن غفير، وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي على الحدث بمنشور على منصة «إكس» قال فيه إنه طلب من قائد الشرطة الإسرائيلية «صياغة خطة مساعدة، لإنشاء قوات دفاع محلية من شأنها حماية الجاليات والمؤسسات اليهودية في الخارج. يعرض بن غفير، بهذا الإجراء، تجربته الواسعة في قمع الفلسطينيين إلى قمع الطلاب الأمريكيين في الاحتجاجات التي تجري في جامعاتهم، لكنّ المقترح يعني أيضا إنشاء ميليشيات إسرائيلية تعمل إلى جانب أجهزة الأمن في دول العالم!
يعتبر بن غفير مطالبة الطلاب في الجامعات الأمريكية بوقف الحرب، ومظاهر استنكار حرب الإبادة في غزة، والتنديد بأفعال إسرائيل أشكالا من «معاداة السامية». إضافة لذلك، يشبّه بن غفير، على ما يظهر، بين أفعال وزارته في دعم المستوطنين من حرق وتدمير وتخريب ومطاردة للفلسطينيين، ومن تعذيب وإهانات وتضييق على الأسرى، وأفعال أجهزة الشرطة في أمريكا، غير أنه يضع نفسه في موضع أكثر خبرة ومراسا بشكل يجعله قادرا على توجيه أجهزة الشرطة في أمريكا وغيرها من البلدان التي ظهرت فيها احتجاجات.
تزامن تصريح بن غفير مع بيان نشره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على موقع «إكس» يقول فيه إن «جحافل معادية للسامية سيطرت على جامعات رائدة». لكن نتنياهو ينتقل، في تصريحه الأخير هذا، من المحاكاة التي أنشأها بن غفير بين إسرائيل والدول الغربية، إلى محاكاة أكثر درامية لا يشبّه فيها إسرائيل بأمريكا، بل يشبهها بألمانيا الثلاثينيات، أي بالحقبة التي انتشرت فيها النازية في أوروبا، في تهويل فظيع مثير للسخرية.
يعاود نتنياهو، طبعا، استعمال المعادلة البائسة التي تساوي العداء لإسرائيل بـ«معاداة السامية» وبذلك يصبح كل الفلسطينيين «معادين للسامية» لسبب لا يد لهم فيه وهو وجودهم التاريخي على أرضهم، ورغم أنه يريد حكّ عقدة الذنب الألمانية، لما في ذلك من فوائد مستدامة لإسرائيل (وأضرار مستدامة للفلسطينيين) فإنه بإعادته عجلة التاريخ الانتقائية بهذا الشكل يبرئ الفلسطينيين، من حيث أراد تجريمهم، فالنازيّة هي مخلوق أوروبي ـ غربيّ،، واليهود الذين وقع الاضطهاد عليهم كانوا أوروبيين أيضا، وتشكيل إسرائيل هو أحد تداعياته التاريخية الفظة بشكل حمّل الفلسطينيين جرائر الغرب، واعتبر الغرب أنه عوّض اليهود عن نكباتهم، لكنّه نكب الفلسطينيين بأرضهم، فحلّ مسألة أوروبية بين أوروبيين عبر استكمال خط الاستعمار التقليدي (الذي كان يشهد نهاياته) والاستيطان العنصري، الذي كانت جنوب أفريقيا آخر نماذجه.
لا تبدو السلطات الأمريكية، حاليا، في حاجة لميليشيات بن غفير ومستوطنيه فقد تم استدعاء الشرطة إلى ساحات الجامعات الأمريكية، وتم إغلاق قاعات التدريس في جامعة كولومبيا، وشارك الرئيس الأمريكي شخصيا في حملة الهجوم على الطلاب، وقام نواب باستجواب رؤساء المؤسسات الأكاديمية، وهدد رجال أعمال بوقف التبرعات للجامعات، ونفّذت الشرطة اعتقالات بالمئات لطلاب وأساتذة (كان من بينهم د. سنان أنطون، الأكاديمي والروائي العراقي الذي كتب عن تجربته لـ«القدس العربي») كما امتد التهديد لمطاردة الطلاب بعد تخرجهم ومنعهم من العمل، ولبناء جدار خشبي في ساحة جامعة نيويورك للتضييق على المعتصمين، بل إن رئيس مجلس النواب الأمريكي، زار جامعة كولومبيا واعتبر أن ما قدمته رئيستها، نعمت شفيق، من قمع ليس كافيا!
يكفي للرد على وصف بايدن ونتنياهو وماكرون وبن غفير للطلاب بمعاداة السامية، أن منظمتين يهوديتين هما «أصوات يهودية من أجل السلام» و«حركة إن لم يكن الآن» شاركتا في مظاهرة كبيرة تحت شعار «أوقفوا تسليح إسرائيل» وأن الكاتبة اليسارية البارزة ناعومي كلاين التي خطبت في الحشد اعتبرت أن الهجوم الإسرائيلي على غزة يعد إبادة جماعية، فيما علّق عوفر كسيف، النائب في الكنيست، والذي درس في جامعة كولومبيا نفسها، بالقول إن طلابا عربا ويهودا وآخرين كانوا في فعالية للحرية مطالبين بإنهاء الحرب والاحتلال.