مَنْ؟

حجم الخط
0

د. توفيق قريرةتهالكتُ على أوّل كرسي وجدته أمامي أشرت إلى النادلة الآسيوية وبحركة من يدي رسمت كأسا فابتسمتْ كأنّما قرأت في الكأس شيئا آخر.. لم أعرها اهتمامي العادي .. وضعت معطفي على الكرسي الفارغ إلى جانبي وأدخلت يدي لأخرج علبة السجائر.. خرجت العلبة و معها خرجت ورقة بيضاء صغيرة .. أردت أن أمزقها كما أفعل دوما مع كشوف البنك أو تذاكر القطار أو الرسائل القصيرة التي أكتبها لنفسي كي أتذكّر شيئا ما .. لكنّ شيئا كالفضول نبهني إلى أن أتأكّد من فحواها ..فتحتها وقد كانت مطوية بعناية وجدت مكتوبا فيها وبخط مرتعش: من؟. كان لون القلم غريبا ونوع الورق غير مألوف ينبعث منه عطرٌ آسِرٌ.. طويت الورقة وأرجعتها إلى جيبي ولمّا جاءت النادلة بالكأس سألتها من تقدّرين أن يكون كتب لي هذا؟ قالت: ومن غيرُها؟ ابتسمتُ وقرّرتُ أن أكتب لها ورقا من حجم ورقها فيه من عطر الرجال النفيس شيء :(أنتِ). لمّا دخلتُ مكتبها من الغد لم تكنْ هناك فرحت لغيابها .. وضعتُ في جيب معطفها المعلّق الورقة وخرجتُ.. في المساء وحينَ كنّا في القطار همَسَتْ في أذني : لقد وضع لي في جيب معطفي وعلى غفلة منّي ورقا فيه عطرُ الرجال الفاخِر وعليه بخط أميريّ (أنتِ).. قلت وأنا أبتسم كالمُتجاهل: من ؟ قالت : ومن غيره؟ وأضافت: لقد كتبتُ له في ورق لا يقلّ قيمة عن ورقه فيه عطر نسائيّ شذيّ: (ليتني) وضعتها في جيب معطفه حين كان يكلّم الرئيس المدير العامّ.. انتابني حُزْنٌ شديد ولكنّي صَمَتُّ.. سألتُ النادلة الآسيوية : ترى لمنْ أمنياتُها؟ قالت: ومن غيره يحقّق الأمنيات؟ قرّرت أن أضع له في جيبه ورقا أنبّهه إلى أنّ أصل الرسالة لا يَعْنيه.. حين دخلت إلى مكتبه قال لي اجلس أيها الرجل الطيّب. جلستُ فكان يمضي الوثائق ويكلّمني بالرموز قال لي :هل تغرّد وحدك أم في السرب؟ قلت: وحدي يا سيدي البارون.. ابتسم وقال: تصوّر أنّ لك من يغرّد معك ويسرّ لك في أذنك قائلا : ليتني.. كيف تجيبه؟ قلت : سأختار له أبلغ الكلام وأرقه وأكثره تنغيما : قال هات: قلت ليس أجمل من كلمة (مَا ) رفع رأسه إليّ وقد أنهى الإمضاء .. وضع القلم ثمّ رفع رأسه إلى السما مردّدا (ما) أعْجِبْ بها من كلمة .. وأضاف أنت عبقري.. استأذنت وخرجت وأنا متيقّن من أنّ الحرف لن يعجبها..عدت إلى المكتب ولكنّ شيطانا رجيما بداخلي أمرني بالرجوع إلى مكتب الرئيس .. سمعته يكلم بصوت متأدب من بدا لي أنّه يقول له: أجل أجل .. إذن نلتقي هناك.. بعد ساعة.. أسرعت إلى مكتبي وفتحته لأرقب خروجه .. وحين خرج تعقبته .. ركب سيارته فلاحقته بسيارة أجرة .. نزل في مقهى آخر.. دخلت بعده.. وجلست في طاولة في الطابق العلوي تشرف عليه.. لم يكن القادم عليه امرأة كما تصوّرت كان رجلا ضخم الجثة يشرب سيحارا .. اتجه إلى الطاولة التي فيها مديري .. وضع معطفه على كرسي مجاور .. وبعد أن شربا كأسين .. وقف الضيف لحاجة يقضيها.. فوضع مديري ورقة بيضاء في جيب معطفه.. خرجت قبل الضيف وظللت أرقب الباب بعد ساعة تقريبا خرج مديري ثمّ خرج صاحب الجثة والسيقار .. ظللت أتبعه حتى انفتحت أمامي سيّارة مجهولة وبسرعة البرق اختطفني شابان فتيلا الساعد وأركباني عنوة في سيارة قاداها بسرعة جنونية وأنا في ذهول شديد لا أقدر على الصياح أو الحركة بعد أن كمّما فمي وأحكما وثاقي..أدخلاني بعد تَرحاب حارّ إلى غرفة باردة ثمّ نزعا عني الأغلال والكمامة وحذّراني من مغبة المحاولة قدّما لي طعاما جيدا وفراشا وثيرا ولكنهما كانا يحرسانني نمت نوما مسترسلا .. ربّما لأني شعرت لأوّل مرّة أنّ هناك من يحرسني .. في الصباح فوجئت بتلك الآسيوية تقدّم لي القهوة .. سألتها بعين دهشة عن سرّ وجودها هناك .. ابتسمت وقالت: (من غيرهم؟) وخرجت .. ارتعدت فرائصي لأني خفت من أن تكون النادلة جزءا من السيناريو .. جاء أحد الشابين وقادني إلى قاعة كبيرة ستائرها داكنة تحجب لون الضياء .. كان الرجل الذي أدخلوني عليه يشبه الرجل البدين الذي رأيته البارحة .. بدا لي أنّه هو نفسه.. سألني: لماذا كنت تتبعني؟ قلت: من؟ قال: أنت ؟ قلت: يا ليتني قال: عرفتك.. وتأكّدت من أنّك أنت الذي سييسر علينا كل العملية.. قلت: وهل في الأمر عملية؟ قال أجل.. لقد بدأناها بك حين وضعنا في جيبك تلك الورقة..من؟ وصرفتها وصرفها غيرك لتدور في البلاد طولا وعرضا كلمات مكتوبة ووجيزة هي بديل حكومي من الكلام الحيّ.. كنت لا أفهم ما يقول غير أنّي تذكرت أنّ هذا الرجل ذو وجه مألوف أراه في بعض قنواتنا حين أعبرها سريعا إلى غيرها وأنا أقرأ صحف النهار ليلا .. انتبهت إليه وهو يقول: أنت رجل فطن وتعلم أنّ الكلام الحي يكلّف حكومتنا أموالا طائلة فنحن ندفع لمن يقوّم النطق وندفع لمن يعالج الحناجر ويضطر الناس أن يدفعوا خطايا للدولة تثقل كاهلكم حين يتحاربون بالكلام ويدفعون أموالا أكثر حين يتداوون من وقع كلام غيرهم فيهم.. الشعب يعاني يا أخي .. من الكلام .. حدجني بنظرة جارحة وأضاف: أليس كذلك؟ فتحت فمي لأقول أجل: فلم أجد صوتي.. دفعت بالهواء من أقصى رئتي إلى أقصى حلقي إلى مجاري الصوت في فمي وأنفي فلم يخرج أي صوت.. انتفضت واهتززت كي أنفجر بالصوت لكن لا شيء .. دسّ الرجل في جيبي ورقة وتكلم بصوت لم أسمعه .. فأخرجني زبانيته جرّا .. أخرجت الورقة من جيبي كتب فيها (من؟) مزقتها إربا إربا جررت رجلي التي تذكرت بالكاد المشي .. ركبت في أول سيارة أجرة وقفت لي:وضع في جيبي ورقة كتب عليها (أين؟) أدخلت يدي إلى جيبي فوجدت كثيرا من الأوراق كتب عليها (من؟) اخترت واحدة وضعتها في جيبه .. بعد مدة أحرجها من جيبه وقرأها.. أوصلني إلى منتزه قريب من المقهى.. دفعت له الأجرة أرجع لي الباقي ومعه ورقة فيها (أين؟) أردت أن أردها إليها رفض شاكرا وأراني ورقتي التي كتب عليها (من؟) واحتفظ بها .. دخلت المقهى كان كل شيء صامتا لا صخب ولا موسيقى وإنما يضع الناس في جيوب الناس أوراقا .. جاءت النادلة أشرت إليها إشارة الكأس ولمّا جاءتني به دسست لها في جيبها (من؟) فدست في جيبي (أنت) دخنت سيجارتي بنكهة أخرى وحمدت الله أنّ ملكة التدخين ما ضمرت لديّ.. ركبت القطار كان الناس يضعون الأوراق الصغيرة في جيوبهم خلسة والشرطة النظامية ترى ذلك بعين الرضا وكأنها لا تراه.*كاتب من تونس qad

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية