مَنْ يهدد أمريكا أكثر: البيت الأبيض أم الفيسبوك؟

حجم الخط
0

«لو أنّ ألدّ أعداء أمريكا صرفوا سنوات وهم يرسمون خطة تكفل تآكل قوانا الأعظم، لما كان لهم أن يفعلوا بالبلد أسوأ مما يفعل بعض مواطنينا أنفسهم، كلّ يوم، بحثاً عن مكسب مالي أو سياسي قصير المدى». هذه هي الفقرة الأولى في مقال نشرته مؤخراً صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، بتوقيع توماس ل. فردمان أحد أشهر معلّقيها؛ تحت عنوان «ترامب، زوكربرغ وصحبهما يكسرون أمريكا»، وباقتباس في صدر المادة يقول: «ليس في زمن الحرب الباردة، ولا خلال فييتنام، ولا حتى أيام وترغيت، شعرت بخوف أشدّ على بلدي».
خلاصة مخاوف فردمان تتركز في ملفين، أولهما ما يرتكبه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من انتهاكات للدستور وحرمة المنصب الرئاسي في ملفّ أوكرانيا؛ وما يرتبط بالحكاية، ضمن تحقيقات الكونغرس الساعية إلى تنحية الرئيس دستورياً، من انحطاط أخلاقي لأعضاء الكونغرس الجمهوريين في طرائق دفاعهم عن الرئيس. الملفّ الثاني هو شهادة مؤسس الفيسبوك مارك زوكربرغ أمام لجنة مختصة في الكونغرس، حول استعداد الموقع لنشر إعلانات دعائية سياسية الطابع (بينها تلك التي تخصّ حملة ترامب نفسه) من دون التدقيق في ما تنطوي عليه من أكاذيب؛ وذلك بذريعة الحفاظ على حرية التعبير، وعدم فرض الرقابة على الرأي.
صحوة فردمان على هذين الملفين ليست متأخرة فقط، بل هي أيضاً موسمية صرفة، جرياً على عادته الأثيرة في تنبيه مواطنيه إلى أخطار ذات صلة بمناسبة محددة، سياسية أو اقتصادية أو أمنية، محلية أو كونية؛ وليس لأنّ الخطر عضوي أو تكويني أو بنيوي يخصّ النظام بأسره، أو بالأحرى لا يتعاظم أو يتفاقم إلا بسبب من اعتلال النظام ذاته أوّلاً. صحيح أنّ صعود ترامب بدا أقرب إلى «ظاهرة» طارئة على الحياة السياسية الأمريكية، ولكن أليس الأصحّ أنّ سلسلة معقدة من الأخلاقيات والأعراف والمواضعات والشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أوجبت صعوده، من جهة أولى؛ وأنه لم يكن نبتاً شيطانياً لا مثيل له ولا سابق في التاريخ الأمريكي، أو حتى على صعيد أسلافه في البيت الأبيض، من جانب ثانٍ؟ كذلك فإنّ العلاقة بين الفيسبوك والمال، أو على وجه الدقة: الرأسمال، ليست اكتشافاً جديداً أو نقلة طارئة في سيرة الموقع وأنظمة إدارته؛ لكي يُفجع فردمان بما يتكشف من حقائق عن استعداد زوكربرغ لنشر إعلانات مدفوعة طافحة بالأكاذيب، فضلاً عن هتك خصوصيات مستخدمي الموقع ضمن خدمة الهدف المالي الاستثماري.
غير أنّ خشية فردمان على بلده من قادة أمثال ترامب وزوكربرغ تمنح المرء ترخيصاً مشروعاً باستدعاء بعض سوابقه في تحريض قادة آخرين، أمثال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، على ارتكاب أخطاء اشدّ فظاعة وأبعد خطراً على مصير الأمّة؛ لأنها إنما تدفع إلى الدخول في حرب خارجية ضروس ضدّ أمم أخرى، استناداً إلى ملفات كاذبة ومزيفة ومختلقة. تلك كانت حاله في سنة 2003، قبيل قرار واشنطن ولندن غزو العراق، حين أبدى خشيته من وقوع مكروه ـ في «ربع الساعة الأخير» ـ يحول دون اندلاع الحرب؛ كأن يظهر يفغيني بريماكوف جديد، يذهب إلى بغداد ويقنع صدّام حسين بضرورة «كشف البطانية»، حسب تعبير فردمان، وإظهار ما تحتها من سلاح (صواريخ سكود، وليس صفائح الكيماوي فقط!)، على عكس ما فعل دكتاتور العراق خلال أشهر 1990 ـ 1991؛ بحيث تفشل جهود الحرب، ويتعطل «تحرير» العراق، فلا يتوغل «فيروس الديمقراطية» في البدن العراقي. يومها لم يكن فردمان مؤمناً، كلّ الإيمان، بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، فحسب؛ بل كان، أيضاً، على يقين مطلق بأنّ العراقيين سوف يستقبلون الغزاة بالورود والرياحين والأهازيج.

ألا يبدو ترامب في حال من التكافل والتضامن مع زوكربرغ، على المستويات آنفة الذكر، بحيث ينتفي أصلاً السؤال عن أيهما أشدّ خطراً على هكذا ديمقراطية؟ وهل تفعل مقالات فردمان شيئاً آخر أهمّ من توطيد هذا الحلف؟

أو خذوا موقفه من محمد بن سلمان حين اعتبر، في مقابلة شهيرة مع ولي العهد السعودي، أنّ ما يقوده الأمير هو «العملية الإصلاحية الأهمّ في الشرق الأوسط»؛ وأنّ «الربيع العربي الذي انطلق من الأسفل نحو الأعلى وكان مصيره الفشل»، يجري في السعودية على مسار معاكس: من أعلى الهرم إلى أسفله؛ وهذه سيرورة «لن تُغيِّر وجه المملكة وحدها، وإنما أيضاً طابع الإسلام ومضمونه في مختلف أنحاء العالم». وبالطبع، حين اتضح أنّ بن سلمان يمكن أن ينقلب إلى منشار ينخر في أبدان المواطنين السعوديين أنفسهم، توجّب أن ينقلب فردمان أيضاً إلى لسان لاذع أوسع الأمير ذمّاً وقدحاً: هذا «حليف مريض وغبي»، و«بصفتي مواطناً أمريكياً، وليس كصحافي، أنا محبط من مشاهدة رئيس بلدي ووزير الخارجية وهم يشتركون مع مسؤولين سعوديين من أجل إعداد قصة ومخرج».
وفي مقالته التي تتخوف على أمريكا من ترامب وزوكربرغ، يقتبس فردمان كتاب «لا غنى عنه: حين تكون الحاجة ماسّة إلى القادة»، لمؤلفه غوتام ماكوندا، الذي يبحث في السؤال العتيق: هل التاريخُ يصنع الرجال، أم الرجال صنّاع التاريخ؛ عبر عدد من قادة الدول والمجتمعات والميادين، ابتداء من توماس جيفرسون وأبراهام لنكلن وونستون تشرشل، وليس انتهاء بأمثال بيل غيتس وستيف جوبز. لكنّ فردمان لا يبدو وكأنه أدرك الأمثولة الكبرى للكتاب (والتي يشير إليها ماكوندا في المقدمة، على لسان الزعيم الفرنسي الجنرال دوغول: المقابر ملأى بأناس لا غنى عنهم)؛ إذْ يكتفي بهذه الخلاصة الاختزالية: «البرهة شبيهة بحال وول ستريت قبل الأزمة المالية، حين افترض الجميع أنّ النظام ثابت إلى أبد الآبدين».
وكان حرياً بمعلّق مخضرم مثل فردمان أن يضع مخاوفه على محك تمحيص أكثر توغلاً في عمق التأزم الرأسمالي المعاصر، حيث الأوبئة العضال أوسع انتشاراً وأشدّ تمكناً من النظام ذاته؛ وليس ممثّليه ورجالاته وحدهم، أياً كانت مواقعهم القيادية: في البيت الأبيض، أو على صفحات الفيسبوك. على سبيل المثال، كان حرّياً به أن يقتدي بنموذج ماكوندا فيقرأ خلاصات الاقتصادي والمفكر الفرنسي جاك أتالي، الذي رأى أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم هي «انهيار» Crash، وليس «صراع» Clash الحضارة الغربية مع سواها من الحضارات؛ غامزاً بذلك من قناة صمويل هتنغتون حول صراع الحضارات. وأتالي هذا، كما يعلم الجميع، ليس بالمراقب العادي لمشهد العولمة الراهن، فهو عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، وعرف الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية. وهو ثانياً اقتصادي بارز شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد وُضع تحت تصرّف وإدارة الاتحاد الأوروبي.
ولقد بدأ بتحديد ثلاثة تناقضات مستعصية، غير قابلة للتصالح، تمنع حدوث الزواج الناجح بين اقتصاد السوق والديمقراطية: الأوّل هو أنّ المبادئ الناظمة لاقتصاد السوق والديمقراطية لا يمكن تطبيقها في معظم مجتمعات الغرب. التناقض الثاني هو أنّ هاتين القيمتين، السوق والديمقراطية، تدخلان غالباً في حال تصارع بدل حال التحالف، وتسيران وجهاً لوجه بدل السير يداً بيد. التناقض الثالث هو أنهما حملتا على الدوام بذور تدمير الذات، لا لشيء إلا لأنّ ديمقراطية السوق كفيلة بخلق «دكتاتورية السوق» بوصفها عنوان حروب التبادل بين ديمقراطية صناعية كبيرة وأخرى أكبر وثالثة تعدّ نفسها الأكبر.
ألا يبدو ترامب في حال من التكافل والتضامن مع زوكربرغ، على المستويات آنفة الذكر، بحيث ينتفي أصلاً السؤال عن أيهما أشدّ خطراً على هكذا ديمقراطية؟ وهل تفعل مقالات فردمان شيئاً آخر أهمّ من توطيد هذا الحلف؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية