‘ترومان كابوتي ذهب إلى هذه السهرة. كانت سهرة تنكرية. الجميعُ كان متقنّعًا. لا أعرف بماذا كانوا متخفين. كانوا يحملون أكاليلَ من الزهور ونوعا من ملابس الرقص. وكانت هناك السيدة غرين Green، ما أن رأته حتى تساءلت: ‘لكن ما هو تنكّرك؟’.
قال: ‘أنا روحُ الربيع’.
قالت: ‘لا يبدو ذلك !’.
وهنا توقف حديثهما’
عبر سلسةٍ لا تصدّق من المصادفاتِ الغريبةِ انتهيتُ إلى قراءة هذي الحكاية التي رواها بول بولز بشيء من التهكم الذي لا يخفى. ما لا يصدّق فعلا هو أنني قد عشتُ أطوار تلك المحادثة القصيرة في حياةٍ سبقت قراءتي لكتاب ‘بول بولز وعزلة طنجة'(1).
كان الفجرُ اخذًا بالانبلاج عندما أيقظني صياحُ ديَكةٍ ينبعث من الحديقة مضمّخا بالرطوبة. كانت تلك فاتحة المصادفاتِ. كونها أخذت بالصياح لأوّل مرة بعد أزيد من ثلاثة أشهر على اشتعالها الجماعيّ كمفرقعاتٍ نارية رخيصةٍ إثر صاعقةٍ أتت عليها في قنّها المسقوف بألواح زنكٍ صدأ، فقد استيقظتُ مسهّدًا إنما سعيدًا، على تغريد ديكتي الحبيبة الذي كاد أن يكون هو نفسه لولا أنّ الموتَ أضفى عليه مسحة من غموض يليق بمن صاروا في الجهة الأخرى من العالم.
قبل هنيهةٍ، تحت سماءِ ملبّدة بالغيوم، كنتُ أعبر زقاقا ضيّقا خاليا من المارة. غمرني شعور يعود إلى حياةٍ سابقةٍ أنني أقطع أحد أزقة مدينة طنجة الأشدّ فقرًا وقتامة. الرياحُ كانت شديدة والهواءُ الذي يهبّ من جهة المحيط الأطلسي جليديّا عندما سمعتُ صوتا يشبه خشخشة يدي ميّتٍ يتلمّس طريقه بمشقة للخلاص من متاهة الزمن:
‘أظنها ستمطرُ !’.
كنتُ لا أزال نائمًا عندما رفعتُ رأسي إلى الشرفة الحجرية التي تهيّأ لي أنّ الصوتَ جاء منها. وككلّ مرة لم يكن في الشرفة من أثر لغير مَقعد هزاز من خشب التوت القاسي يتأرجحُ كبندول ساعةٍ معطّلةٍ تشيرُ إلى مرور ساعة و دقيقة على انحراف الزمن في ذهن أحدهم. بدا لي أنّي أرى شكل ذلك الأحدَ الذي قدّرتُ أنه كان يؤرجح مقعدهُ في الشرفةِ قبل انحراف الزمن في ذهني بساعة وتسع وخمسين ثانية. للمرة الثانية سمعتُ ذلك الصوتَ يقطر من قرمز الشرفة:
‘أظنها ستمطرُ !’
قطّ أسودٌ بعينين أقرب إلى عيني سمكةِ شبّوطٍ منهما إلى عيني قطّ ظهر فجأة في فراغ الشرفة. كما لو كان يؤمّنُ على كلام الشبح، ماءَ مرّتين قبل أن ينسلّ إلى عتمة البيتِ في إثر سيّده الذي ظلّ صوته يقطر من علٍ: ‘أظنها ستمطرُ…أظنها ستمطرُ !’.
فجأة، كما لو كنتُ أحلمُ، فتحتُ عينيّ وعندئذٍ هطل المطرُ. صوتُ ديَكتي كان يمتزجُ بوقع القطراتِ الثقيلةِ وينشرُ الالهام في الغرفة مخفّفا من غرابة المقعدِ الهزاز الذي كان يتأرجح لوحده في مواجهة السرير. وأنا ممدّد في دفء أغطيتي ألقيتُ نظرة على الساعة المعطلة المركونة فوق كوميدينو من خشبٍ أسود أشبه بصندوق راهب مُبتدئ، لأكتشف أنني استيقظتُ قبل ساعةٍ عن المعتاد. لذلك فقد كدتُ أستسلم للنوم مرة أخرى لولا أنّ بخار جسم صغير بدا أنه يطبع أنفاسه في بلّور نافذتي دفعني إلى تخيّل أنني أمسك بمقبضها الصدئ وأديره بالحنان الذي أدير به المفتاح في فلينة زجاجة نبيذٍ فاخر. وهنا حدثت ثاني المصادفاتِ، عندما قفز القط الأسودُ ذو العينين الشبيهتين بعيني سمكةِ شبوطٍ، والذي كان قد هجر البيتَ منذ سنين، إلى عتمة الغرفة محتميا بها من المطر الذي بدأ ينزل بوتيرةٍ أسرع، في محاولةٍ لضغط فارق الوقت بين هطوله في ذهني وسقوطه فوق قرية أم العرايس(2) في مثل هذه الساعة المبكرة من الفجر.
لوهلةٍ خامرني الشك أنّ تغريد ديَكتي التي اشتعلت منذ أزيد من ثلاثة أشهر وعودة قطّي الذي كان قد هجر البيتَ ونزولَ المطر بعد قرون من شُحّ السماء، كلّ ذلك لم يكن ليَحدث مصادفة. عندها بدأتُ التفكير أنه لابدّ لي من مجاراة المصادفاتِ. كنتُ لا أزال ممدّدا في الدّثار عندما بدأتُ بتشغيل سوناتا رقم 3 مقام سي مينور لفريدريك شوبان أداء ارثر روبنشتاين، لكنّ الموسيقى التي انبعثت من الفونوغراف كانت موسيقى الحجر الأبيض للهنغاري ابرامز، أغلب الظن أنني قد كنتُ سمعتها في الحلم الذي سبق انحراف الزمن في ذهني بساعة وثمانية وخمسين ثانية. الموسيقى كانت صامتة ورطبة كقبو حجريّ مغلق، حتى أنه خيّل إليّ أنني، بين كلّ حركتين، أسمع طقطقة لحاءٍ يابس يتفجّر تحت ضغط النسغ الذي اندفع في جذوع أشجار مهجورةٍ. اللحاءُ كان يطقطق والماءُ يقطر، رغم ذلك أمكنني أن أسمع حديث رجلين مجهولين بدا أنهما يقطعان الطريق إلى وجهةٍ:
– ‘أرجو أن نصل في الموعد. لا يمكنني أن أتنبّأ بما يمكن أن يحدث بعد ساعة وسبعة وخمسين ثانية’. قال الرجلُ الذي قدّرتُ أنه ذكرى رجُل اخر مات منذ دقائق.
– ‘بقيَ أمامنا أقلّ من ست وخمسين ثانية. لا تنسى أنّ أحدهم قد استيقظ أبكر من المعتاد بساعةٍ’. قال الرجُل الذي بدا، بقبّعته القاسية وسترته السوداء المنشاة، أشبه بمصوّر فوتوغرافي عائدٍ لتوّه من مراسم جنازةٍ.
صار الحديثُ يخفتُ في ذهني والخطى تزداد ابتعادًا عندما رحتُ أقطع الزقاق الضيق مرة أخرى. صدى ‘أظنها ستمطر’ كان لا يزال عالقا في الهواء. رفعتُ رأسي إلى جهة الصوت وفجأة وقعت نظرتي على كرسيّ القاسي الذي بدا أنه لم يكفّ لحظة عن التأرجح منذ المنام السابق. استغرق الأمر أقلّ من دقيقةٍ إلى الوراء كيما أصعد الدرَج الحجريّ الخربَ قبل أن أصير في عمق الصالة المغمورة بالموسيقى ودخان الغلايين. الجميعُ كان متقنّعا، وسطُ الصالة كان مشغولا بمن يرقصون على أنغام موسيقى مغربية أدعى لاثارة الشجن منها لاستدعاء السعادة،. كانت تلك حفلة غرّةِ اذار 1949.
بعيدًا عن ضجة الحفل برق ترومان كابوتي في الشرفة. أمكنني، من خلال حزمة الثواني التي تفصل ذهني عن مطابقة الواقع بالأحلام، أن أراه مستندا بيده إلى ذراع الكرسيّ الذي بدا كأنه يتأرجح تحت ثقل قوة غير منظورة أكثر منه تحت تأثير يد الرجل الواقف دون إكليل زهر أو قناع يموّه به وجهه. كانت لا تزال ثانيتان فقط على تلاشي الانحراف عندما دخلت السيدة جين بقناعها الشبيه بورقة توتٍ ضخمة تفيض على وجهها:
– لكن ما هو تنكرك سيد ترومان؟
نظر من خلالها باتجاه الثانية التي تبقّت لي، قبل أن يجيب خافضًا رأسه بارتباك ملاكٍ هوى بغتة على الأرض: ‘أنا روح الربيع’.
– للأسف. لايبدو ذلك !
‘يـــاه. العالمُ قاس وغريبٌ’. تنهدتُ وأنا أحلم.
لم تكن تنهيدتي مسموعة إنما حُلميّة بالقدر الذي جعل السيد ترومان يرفع رأسه وينظر باتجاهي عبر حقل الرؤية الذي أتاحه له انحراف الزمن في ذهني. كان واضحا من اختلاج شفتيه أنه ازداد أسى لأسايَ عليه، لذلك فقد حاول أن يبتسم مداراة لكنه لم يفلح.
وكما يحدث في واحدٍ من أفلام إنغمار بيرغمان، سالت قطرة ماءٍ في أحلامي. وبمجرّد أن ارتطمت بأرض الغرفة أضيئت شمعة في مكان ما ومُرّرت أمام عينيّ بطريقة خاطفة وبمَيلان أربعين درجة عندها استيقظت وكان نورُ واحدٍ من أبهى صباحاتِ اذار 2013 يغمر وجهي. النافذة مشرعة كتنهيدة تعجّب استلّها الفجرُ،موسيقى الحجر الأبيض تشعّ كما لو أنه ألِّفت من ذرّات اليورانيوم لا من نوتاتٍ وأصواتٍ، بينما قماش الكرسيّ الهزاز، الذي كفّ عن التأرجح، لا يكفّ عن التموّج. فكرتُ أنه قد يكون شهيق القط الذي حلمتُ به وزفيره، حتى أنني لم أكن في حاجة لأمرّر يدي فوق المقعد لأشعر بحرارة الجسد الذي تكوّر فوق القماش محتميا بلامرئيته.
كنتُ لا أزال ممدّدا في هناءة الحجر الأبيض عندما تناهى إليّ صوت الرجلين المجهولين مرّة أخرى. بدا أنهما عائدان منذ هنيهةٍ من حفلة غرّة اذار 1949.
– ‘أشعرُ بالحاجة إلى شرب كأس. لو أنّ ذلك الأخرق الذي كان يحلم استغرق في نومه ثانية أخرى فقط كنتُ عانقتُ السيد ترومان مطبطبا على ظهره، هامسا في أذنه: لا يمكن أن تلوم السيدة غرين. هيّا، حاول أن تبتسم قبل أن يستيقظ أحدهم. لقد أثبتّ وجهة نظرك. الديكة والمطرُ المباغتُ واللحاءُ الذي طقطق تحت ضغط النسغ الذي اندفع في جذوع الأشجار المهجورة. أظنّ أنك تفهمني. هيّا ابتسم قبل أن يفيق ذلك الأخرق !’ قال الرجلُ الذي كنتُ قدّرتُ أنه ذكرى رجُل اخر مات منذ دقائق.
– ‘أنا أيضا أظنني في حاجة إلى شرب كأس. أخشى أنّ وجه ترومان لن يفارقني’. قال الرجلُ الذي كان أشبه بمصوّر فوتوغرافي عائدٍ لتوّه من مراسم جنازةٍ، قبل أن يتهدّج صوته فجأة: ‘أذهب طوعا إلى فم الوحش وأعرف من أضاء الشمعة.’
في ذلك الفجر الغريب كنتُ أهذي: ‘من أضاء الشمعة؟’
1- بول بولز وعزلة طنجة’ محمد شكري – ص 27 منشورات الجمل الطبعة الثانية 2006
2- أم العرايس: قرية منجمية في الجنوب الغربي التونسي
جميل هذا النص، و ماتع، و ليت كاتبه لم يستيقظ حتى نسمع بقية القصة!
ألف شكر..