خبر مهمٌ كان يجب أن يشكّل بداية رحلة إنقاذ قطاع العدالة في الجزائر، لكنه لم يفعل: نقلُ وكيل جمهورية مساعد (ممثل الادعاء في محكمة) إلى محكمة بأقصى جنوب شرق البلاد عقاباً له على مرافعة، وُصفت بالسياسية، أثناء محاكمة مشاركين في الحراك، أنهاها بطلب البراءة لهم.
من المسمّى الوظيفي، وكيل جمهورية مساعد، يتضح أن الرجل لا يزال في المربع الأول من مساره المهني. يعمل في محكمة «سيدي محمد» بالعاصمة التي ارتبط اسمها بالأحكام القاسية التي ما انفكت تصدر بحق المشاركين في الحراك والداعين له، وفي حق رموز «عصابة بوتفليقة». وقد رافع لصالح المتهمين، بدل أن يكون ضدهم (عادة يطلب المدّعون في المحاكمات أشد العقوبات)، وقال إنه فعل ذلك تضامناً مع طموحات الجزائريين الذين يتوقون إلى عدالة مستقلة وحرة لا تؤتمر بالهاتف. بسرعة أخضعت وزارة العدل قاضي النيابة محمد بلهادي لتحقيق انتهى بتحويله إلى محكمة غْمار، بولاية الوادي، وهي منطقة صحراوية تبعد نحو 500 كلم عن العاصمة. تشبه هذه العقوبة تلك التي يتعرض لها الجنود ومنتسبو القوى الأمنية والجمارك بتحويلهم إلى الصحراء عقاباً لهم على أخطاء مهنية خطيرة أو على قلة انضباط.
علاوة عن أن قرارات التحويل، وفقاً للقانون الأساسي للقضاء، من صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء وحده، ولا يمكن أن تُتخذ كإجراءات تأديبية، يحمل القرار الصادر بحق قاض أراد أن يحلم بـ«جزائر جديدة» (شعار الرئيس تبون) وبعدالة تجري تحقيقاتها وتنطق بأحكامها من دون ضغوط فوقية (هذا هو المقصود بالعدالة المستقلة لا أكثر)، رسائل عدّة لمن أراد أن يقرأ.
من الرسائل، أن القرار اتُخذ أمام أعين وزير العدل بلقاسم زغماتي. زغماتي كان مدعياً عاماً في المحكمة ذاتها وظنَّ الناس مرة أنه يقاتل من أجل عدالة مستقلة في عهد المخلوع، عندما قُيّض له أن يفتح تحقيقات فساد كلّفته منصبه. أن يتحوَّل زغماتي ذاته إلى مصدر قمع وتهديد للقضاة، بدل أن يكون الحامي لهم، فتلك إشارة سيئة ومثيرة للاستياء. كثيرون القضاة الذين، لأسباب تأديبية، يحوَّلون إلى مناطق بعيدة، لكن تلك الممارسات لم تكن مفاجئة وهي تحدث في عهد الاستبداد والظلم. أما أن تستمر اليوم وتحت أعين وزير صدّق الناس حيناً أنه مقاتل من أجل استقلال القضاء، ففي ذلك إنذار آخر بأن شيئاً لم يتغيّر، وبأن ممارسات «العصابة» مستمرة، وبأن طريق الجزائريين لا يزال طويلاً.
يتفق الجزائريون على أن القضاء في بلادهم اليوم ليس أفضل حالاً مما كان في العهد السابق. العدالة، كما الأمس، هي اليوم إحدى آلات القمع واليد الضاربة للسلطة في مواجهة خصومها والمجتمع
أما أخطر رسالة يحملها قرار إبعاد هذا القاضي المسكين، هي أن قطاع العدالة لا يزال محكوما بالقبضة ذاتها التي خنقته في عهد المخلوع، فكتمت على القضاة أنفاسهم وحوّلتهم إلى موظفين ينتظرون الرواتب والترقيات ويخافون على امتيازاتهم الوظيفية ومواقع عملهم أكثر من خوفهم على قيَم الحق والعدل التي أقسموا على احترامها وتنفيذها.
ولكي نلمس أهمية القرار الذي اتُخذ في حق القاضي بلهادي، يجدر التذكير أن الإضراب الذي شنّه القضاة الجزائريون قبل شهرين، وكان سابقة في تاريخ الجزائر المستقلة، سببه تعيينات وتحويلات قالت نقابة القضاة يومئذ أنها غير منصِفة.
المخيف في الأمر أيضاً أن قرار تحويل الرجل إلى تلك المحكمة البعيدة، مع كل ما يترتب عنه من اضطراب في حياته الشخصية والعائلية، مرَّ مرور الكرام تقريبا. نقابة القضاة ونادي القضاة اكتفيا ببيانات محتشمة أريد بها حفظ ماء الوجه أكثر منه رفع الظلم الذي لحق بالرجل. الصحافة اكتفت بنقل الخبر بصياغة وأسلوب متطابقَين كأن شخصاً واحداً حرره وأملاه على الجميع. المجتمع المدني فضّل الصمت أو التعبير باستحياء. نقابات المحامين لم تشعر أنها معنية بالأمر، ربما لأن الضحية هذه المرة هو خصم في الجلسات. أما الحراك فكان عليه أن يعبّر عن موقفه بطريقة أكثر قوة في الجمعة الـ52 من عمر التظاهرات.
الجدل الأبرز والتعاطف الأكبر مع بلهادي، كان في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذه معروف بأنها فقاعات فارغة وبلا تأثير، تظهر بسرعة وتختفي بسرعة أكبر.
كان يمكن للقرار الصادر بحق قاضي النيابة أن يكون بداية مسار جديد يفضي يوماً إلى استقلال القضاء وتحرير القضاة من الخوف والتهديد بالإبعاد وبتعطيل الترقية. فأيّاً كان قصد القاضي المغضوب عليه من مرافعته الاستثنائية تلك، هو لم يفعل في حقيقة الأمر إلا إعادة الأمور إلى نصابها، لأن مهمة المدّعي (يسمّيه عامة الناس «الغرَّاق» لأن مرافعاته عادة قاسية ومطالبه بحق المتهمين مشددة) هي إنصاف الناس وتكريس العدالة في المجتمع، وليس بالضرورة فرض إدانة المتهم بأي ثمن.
يتفق الجزائريون على أن القضاء في بلادهم اليوم ليس أفضل حالاً مما كان في عهد المخلوع. العدالة ، كما الأمس، هي اليوم إحدى آلات القمع واليد الضاربة للسلطة في مواجهة خصومها والمجتمع. الأسبوع الماضي تناقلت تقارير أنباء مراسلة داخلية من موظف رفيع في وزارة العدل يطلب فيها من القضاة التبليغ عن الأحكام التي تصدر في محاكم عملهم ويقدّرون أنها غير عادلة. ليس أكيداً أن المخلوع ومَن عملوا له سعوا إلى توظيف القضاة كمخبرين، بينما أدوات تقييم الأحكام متاحة وقانونية وأبسط بكثير من التحريض على «التخابر»!
كاتب وصحافي جزائري
داخ ودخنا ودوخنا معه عبارة تستعمل عندما تسير الأمور عكس ما يرادلها ولكن نلتمس نوع من الصدق والسلاسة والرغبة الصادقة في التغيير في خطابات تبون طبعا بالمقارنة مع نظام التسعينات أين كان المسؤولين يطلون علينا في التلفزيون بخطابات إستفزازية ولغة خشبية ونوع من الإستعلاء طبعا كانت في التسعينات تتبع سياسة الكل أمني .
“الجزائر ـ “القدس العربي”:
اختار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال لقائه مع الولاة (المحافظين) ورؤساء الدوائر أن يعرض فيديو يستعرض المشاكل الاجتماعية للمواطنين عبر مختلف المدن والمحافظات الجزائرية، التي لا تزورها عادة الكاميرات، ولا يراها المسؤولون، خاصة ما تعلق بمشاكل النقل وغياب الطرق وقنوات الصرف الصحي والبطالة والفقر المدقع، وعدم توفر مياه صالحة للشرب وعدم ربط أحياء بالتيار الكهربائي، ولامبالاة السلطات المحلية عن تلك المشاكل، بل وأحيانا الإضافة إلى هموم المواطنين بعقوبات وغرامات وجرهم إلى ساحات القضاء بسبب محاولات هؤلاء المغلوبين على أمرهم، مع بث تصريحات للمواطنين الذين كانوا يحكون همومهم ومعاناتهم لعقود من الزمن، فيما يعيش بعضهم ظروفا غير إنسانية بحسب تعليق معد التقرير، وهذا في وقت كان فيه التلفزيون الحكومي ذاته لسنوات يتحدث عن الجنة التي أنجزها بوتفليقة، لكن التقرير بين أن الجزائر في الحقيقة غير ذلك.” إهـ
ولكن هذا الرئيس لم ينزل من السماء. فهو ابن الإدارة منذ أكثر من 4 عقود بل 5. فقد كان واليا ووزيرا ثم وزيرا أول، فكيف يستقيم القول إنه يكتشف الجزائر “العميقة” لأول مرة. لكم الله يا مستضعفون..