ما الذي تساويه خمس سنواتٍ في حساب التاريخ؟ يقيناً لا شيء، فهو يقاس بالعقود والحقب على أقل تقدير، وعلى ذلك فلا مفر من الاعتراف بالنجاح المبهر لمحمد بن سلمان الذي لم يسمع به جل العالم خارج المملكة، التي تنوء باسم عائلته وربما الجزيرة العربية قبل ذلك التاريخ، حين تقلد منصب رئيس بلاط ولي العهد، أي أبيه، الذي كان قد نُصب بدوره في العام السابق على ذلك، عقب وفاة أخيه نايف بن عبد العزيز.
ثم صعد كالصاروخ ليحتل صدارة المشهد كالابن المفضل في بلاط أبيه المريض، وفقاً لعديدٍ من الشواهد والروايات.
لسنا بحاجةٍ إلى تصريحٍ منه عن مكنونات نفسه وتطلعاته، لنستنتج أو نصل إلى قناعةٍ أو تصورٍ عن كم الطموح الذي يحدوه ويحكم تصرفاته، فذاك الشاب مهووسٌ بالقوة والسلطة والسيطرة المطلقتين، مسكونٌ تماماً برغبةٍ حارقة ليذيع صيته ويصنع لنفسه مكانةً، ويحفر اسمه على جبين التاريخ، والشاهد أنه نجح في ذلك باقتدار، فبين عشيةٍ وضحاها كما تقول العرب طبقت سمعته الآفاق، وليس من قبيل المبالغة أن نزعم أنه صار الأشهر في العالم، بل وأضحت الحروف الأولى من اسمه “م ب س” علماً وماركةً تجارية مسجلة، إلا أنها في دليلٍ آخر على مكر التاريخ باتت ترمز إلى الوحشية والرعونة والتهور الغبي، الذي يحطم كل الحواجز والقيود المتعارف عليها، ولا يأبه بأي قيمةٍ أو يقيم لها وزناً، ولئن كان نجمه قد بدأ في السطوع مقترناً بحملةٍ أُريد لها تلميعه وتسويقه في الغرب بجملةٍ من الإصلاحات، نسب لنفسه الكثير من أفكارها بعد أن قام بحبس من نشطوا في المناداة بها (كرفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات على سبيل المثال) ومكافحة الفساد بحبس أمراء من أسرته وبعض رجال الأعمال، فلم يلبث أن كشف عن وجهه الحقيقي بالحصار الخانق على قطر، الذي قصم الخليج في سابقةٍ خطيرة، وخطف رئيس وزراء لبنان؛ لكن يظل بالطبع نحر ونشر أوصال جمال خاشقجي الجريمة الفردية الأفقع على مستوى العالم، الذي اختار العمى الإرادي عن مجزرة اليمن الوحشية، التي أودت بحياة ما لا يحصى من عشرات، وربما مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء ودفعت بالباقين للمجاعة في صراعٍ نفوذٍ مع إيران يتسق وأولويات وتوجهات ترامب وإسرائيل.
لكن الشاب الأرعن الجموح ذا المنشار الذي دخل التاريخ من باب الجهل والنزق والدموية البربرية البدائية الأوسع، بما يرفده من غرورٍ وتعطشٍ للسلطة والقوة والثراء، يرمز معبراً مختصراً لا لواقع تلك المملكة ومحيطها الإقليمي فحسب، وإنما لعالم رأس المال الأوسع، وما يحكم سيره من علاقات المصالح التي قد (أؤكد على “قد”) يحدها حتى حين ويعرقل تغولها رأيٌ عام وتشريعاتٌ وموانع، من بنات البنية الفوقية الملتفة، التي نشأت نتيجة الطبيعة والمنطق الداخليين لتلك المؤسسات التي أفرزها تطور رأس المال والدولة. محمد بن سلمان أو”م ب س” يجسد بهيكله الضخم وشخصه الهزيل واقع رأس المال الراهن، بعلاقاته وأزماته وتطاحنه وصراعه الأهم المستجد، بين قوةٍ أمريكية غاربة، تشهد انحداراً نسبياً، والصين التي تنازعها الصدارة على الكوكب بالإضافة إلى روسيا، إذ بدون إرادةٍ منه ويقيناً بدون وعيٍ أو إدراك أزاح أوراق توتٍ كثيرة. بدايةً كشف طبيعة تلك الدولة – المملكة التي آلت السيطرة عليها إلى عائلته، الممتدة عقب سلسلة من الغزوات والمعارك والتحالفات، فما التطور والتحديث الخارجيين سوى قشرةٍ رقيقة للغاية، تخفي وراءها بدائيةً وتوحشاً، كما أنها تثبت مرةً أخرى كم تبتذل وتمتهن شعارات التحديث والحريات على يد طغاةٍ لا يستغلونها سوى لتلميع أنفسهم، خاصةً حين لا تكلفهم شيئاً.
أما على الصعيد العالمي فقد فضحت وكشفت تلك الجريمة عن حقيقةٍ نعلمها جميعاً وينكرها كثيرون من فرط قبحها واستساغةً للتشبث بالأوهام: أن المصالح التي تحكم في نهاية المطاف، وأن المبادئ والمثل للأسف الشديد ينتهي بها الحال إلى بيادق وأوراق قوةٍ وضغط. لم نجد أفضل من ترامب يعبر عن ذلك بمعادلته البسيطة حين قال بأن موقفاً عدائياً من المملكة سيهدد مبيعات أسلحةٍ ومعدات بقرابة المئة وعشرين مليار دولار من شركات السلاح والعتاد الأمريكية، ما يعني أن تلك المبالغ الطائلة ستنتهي في خزائن الصينيين أو الروس. ليس هناك أفصح وأبلغ من ذلك، فالرئيس الأمريكي الشعبوي المنتخب على موجةٍ من انعدام الثقة والسخط والشك العميق في المؤسسات، يقول بصورةٍ غير مباشرة بأن رأس المال الأمريكي في صراعه مع الصين لا يملك رفاهية التشبث بحقوق الإنسان والحريات الخ، ما دفع البعض ليصف الحقبة المقبلة من التطاحن الرأسمالي بسباقٍ نحو القاع، إذ عوضاً عن المزايدات بالحريات السياسية والشخصية والمساواة التي صبغت حقبة الحرب الباردة، نعيش الآن في عالمٍ يكاد لا يزعم أنه يحفل بتلك المثل أو يكترث بها في الحساب الختامي. كما أن تقرير المخابرات الأمريكية شبه المدين، يكشف عن الأصوات المختلفة داخل أمريكا، وربما صراعٍ صامت بين الإدارة وأجهزة الدولة. بيد أن أبلغ ما قيل في تلك الأزمة بدون منازعٍ في رأيي وأكثرها كشفاً، هو ما جاء على لسان ترامب أيضاً من محورية الوجود السعودي في حفظ أمن إسرائيل، فأسكت كل كلام وأغنانا عن الجدل ومحاولات الإقناع.
هو ذا واقع الرأسمالية: أزماتٌ وصراع كلابٍ مسعورةٍ للبقاء، علاقات مصالح وتربيطات منفعةٍ ومكاسب، لا مكان للمبادئ فيها، فما بين السعودية وإسرائيل أعمق وأوثق من كل الشعارات والمقدسات، توأمة وجودية.
لقد عرفت منطقتنا مذ بدأت تتحسس طريقها للحداثة بمعناها الأوروبي ولاةً طموحين وضباطاً ثائرين أو انقلابيين ينادون بالتحرر والتطوير وأحياناً التنمية والاشتراكية، فربما حان وقت ملكٍ شابٍ مغامرٍ وأرعن، مع فارق أن تلك النسخة الأجد، “م ب س” جاء متأخراً وأكثر بشاعةً وعنفاً، ينافس على المركز الأول في الحماقة والاندفاع. بيد أن “م ب س” ذا المنشار الذي أخلت مؤامرات القصر ودسائسه محلها في عهده لإهانة وحبس أفراد عائلته، ربما كان مفيداً وكاشفاً فوق ما كان يرجوه أو يطمح إليه على الرغم من إجرامه، كأنه أداةٌ مسخرةٌ في يد التاريخ لفضح زيف دعاوى التحديث في مملكته، ودعاوى المبادئ وحقوق الإنسان التي تسبق المصالح المادية في البلدان الرأسمالية، فلا أعلم أميراً أو ملكاً خدم أطروحات الاشتراكيين في العهد القريب مثله!
سيكون من الممتع أن نرى كيف ستتم تسوية هذا الملف في الأسابيع المقبلة، علماً بأن موقف ترامب يرجح بقاء بن سلمان وربما اقتصر الأمر على كلمتي توبيخ في السر وقرصة أذن مصحوبةٍ بـ”لا تفعلها مرةً أخرى” ودرسٍ عن الخطوط الحمر (أي أقتل شعبك واليمنيين واشترِ بمالك من استطعت ولكن إياك وهذه الحماقات خارج محيطك أو مستنقعك العربي).
هنيئاً لبن سلمان الشهرة التي سعى إليها وإن جاءته على غير ما يشتهي، ولا عزاء لمنطقتنا البائسة التي تنتج الطاغية وراء الآخر من المرضى النفسيين والقتلة الجماعيين وما زال فيها من ينتظر من أنظمةٍ كهذه إصلاحاً سلمياً!
٭ كاتب مصري