وثّقت الأغنيات الفولكلورية وما تختزنه من عادات وتاريخ وجغرافيا تقلق المحتل
بيروت-“القدس العربي”:نائلة عزّام لبّس من فلسطين، ارتبط اسمها بأبحاث ومؤلفات عن التراث الغنائي والشعبي. كل من يعمل على تجديد الغناء التراثي الفلسطيني لابد سيعود إليها لتشرف على صوابية مساره، هذا إن كان من سكّان “البلاد”. وإن كان من فلسطينيي الشتات فكتبها خير دليل ومعلم، كما ساهمت وسائط التواصل الحديثة بفك العزلة، وحلّ بعض العقد.
عناوين كتبها تثير الفرحة في النفوس كمثل “لبَّسْتِك الأبيض: عرايس الجليل بعدسة فوتو نبيل”. وكذلك اسطوانة “قريمشة يا قريمشة” التي يرغب بسماعها الكبار قبل الصغار نظراً لرقتها، وحجم المعلومات الاجتماعية القديمة التي تتضمنها عن فلسطين وشعبها. إلى كتاب “أغانيا النصراوية: شامية وجاي الشام” بالغلاف التشكيلي الجميل.
شغف الحوار مع نائلة لبّس تلاقى مع قبول سريع من قبلها. هنا التفاصيل:
*متى شغلك التراث الفلسطيني من غناء وعادات وتقاليد؟ وكيف اعتبرت حفظه واجباً وطنياً؟
**سؤال يعيدني إلى طفولتي، فقد ولدت بعد احتلال فلسطين سنة 1948. هذا الاحتلال خسّر والدي عمله في شركة بترول العراق، وعاد إلى الناصرة ليعمل بالتصوير. كنت المولود الأوسط بين ثلاثة أبناء وتميزت بكثرة الإزعاج. لهذا تمّ تصديري إلى “دار ستي” في يافة الناصرة حيث عشت طفولتي المبكرة. “دار سيدي فلاّحين” وهناك تشبعت بتلك الحياة الغنية ولاحظت كيف يحللون الأمور ويتعاملون معها، إلى غير ذلك من الممارسات الفلاحية التي عشتها يومياً. عندما كبرت عملت في التدريس في مدرسة قرية “عين ماهل على جبل سيخ قريباً من الناصرة”. وهناك نظمت سنة 1983 أسبوعاً للتراث الشعبي، حيث تم تخصيص كل يوم من أيامه بنوع محدد من التراث، منها الغناء والدبكة والزجل وغيرها. وفي تلك البلدة المشهورة بتراثها الشعبي بدأت ألملم تلك الأغنيات بهدف تنفيذ الأسبوع التراثي. ومع انتهاء هذه المهمة وجدت بين يدي ثروة من الغناء أضفتها لما أحفظه من طفولتي ومطلع شبابي. وهكذا بدأت تلك المرحلة المهمة من حياتي من دون أن اخطط لها بل جاءت بالصدفة وحفّزتها خلفيتي الفلاّحية التي عشتها في طفولتي.
*هل طال اهتمامك كافة أرجاء فلسطين التاريخية؟
**بل طال اهتمامي المثلث والجليل من فلسطين ولم أصل إلى النقب، الذي يشكل حالة خاصة قائمة بذاتها. يختلف النقب كل الاختلاف من حيث اللهجة واللحن على صعيد الأغنية الفولكلورية.
*هل كانت بين يديك مادة مكتوبة؟
**سعيت للحصول على كل ما كتب حول الفولكلور، فأنا مُدرِّسة موسيقى، والفولكلور هواية مارستها. وتمكنت من جمع كتب كثيرة لكتّاب محليين فلسطينيين أو غيرهم. قرأت وتابعت بمفردي، فكافة أبحاثي أتت نتيجة مجهود شخصي ولا صلة له بالجانب الأكاديمي.
*وما هو دور المشافهة أي رواية الحكاية في حفظ تراث فلسطين كون بعضه تعرض للمصادرة أو الإبادة على يد المحتل؟
**في الواقع لم تكن لدينا سوى المشافهة ولسببين. الأول أن تراثنا لم يكن مكتوباً قبل سنة 1948. ففلسطين قبل الاحتلال لم تكن قد دونت فولكلورها، بل بقي محفوظاً في ذاكرة الجيل الذي عايش تلك المرحلة السابقة. هذا الجيل زودنا بالقدر الممكن من الأغنيات ومن الحكايات. شخصياً لم أتخصص بالحكايات، بل الراحلة الدكتورة حنان جرايصي أولت هذا الجانب كبير اهتمامها واختارته عنواناً لتخصصها الأكاديمي العالي. بالنسبة لي دخولي إلى موضوع الحكاية الشعبية جاء في إطار خدمة مهمتي الأساسية وهي الأغنية الشعبية.
*ثمة نظرية تقول بإن المرأة هي الأمينة على التراث ونقله عبر الأجيال. هل أكد عملك المتخصص ذلك أم نفاه؟
**السبب في تلك النظرية أننا حيال عالمين من الغناء الشعبي، هما عالم الغناء الرجالي وعالم الغناء النسائي. لم يؤد الرجل الأغنية، بل أدى نمطاً من الغناء. في حين أدت المرأة الأغنية التي لها بداية ونهاية. وتلك الأغنيات قائمة على “موتيف” واحد في كافة أبياتها، وفيها نسمع الرجل يتحدث عن موضوعات كما موضوعات المرأة، إنما هي تفتقد إلى التركيز الموجود في الأغنية النسائية. وبعد التجربة الأولى التي قمت بها اكتشفت أن تراثنا يكتنز تاريخاً وجغرافيا في آن. لقد ذكرت الأغنيات النسائية التاريخ والجغرافيا في فلسطين منذ عقود بعيدة جداً. كنت أذهل وأنا بصدد تفسير وتحليل “الغناوية” نتيجة حجم المعلومات التي تتضمنها عن البلدان، والمواقع والقلاع والأسوار التي كانت ترد في تلك الأغنية. وعندما تؤدي المرأة الأغنية، فهي تساهم بترسيخ مادتها في الأذهان. وهكذا تتعلم الأجيال التاريخ والجغرافيا من دون قصد. خلال أبحاثي وجدت أن أهم موضوعات الفولكلور هي تلك البعيدة عن العامل المادي من أيادي وطعام وشراب. الفولكلور يتألف من “فول وكلور” أي الفكر الشعبي. هذا الفولكلور طرح كل ما له صلة بالفكر، من الحكايات والأمثال الشعبية والحزازير وإلى آخره. يأتي الغناء في مكان مهم من الفولكلور، فهو متداول جداً.
*هل باتت أبحاثك موثقة ومحفوظة في كتب؟
**بالتأكيد. أصدرت إلى سنة 2019 ستة أبحاث أحدها يختص بالأغنيات الفولكلورية في الأعراس. والثاني “أغانينا النصراوية: شامية وجاي من الشام”. وكتاب عن “الأمومة والطفولة في الفولكلور الفلسطيني”. وبناء على المعطيات التي تتضمنها الأغنيات لاحظت حجم حضور الحسد في الأغنيات النسائية، وكان لي بحث بعنوان “الحسد في ممارساتنا الشعبية: طرق الوقاية والعلاج”. وألّفت كتاباً للأطفال بعنوان “قريمشة يا قريمشة”. هو كتاب مبني في كامل التعبيرات التي يتضمنها التراث. والهدف كان إطلاع الأطفال على مفردات كانت في حياتنا سابقاً ومنها “شوبك، وطابونة، وطبلية وسواها”. تلك التعابير الفولكلورية صغتها في أغنيات للأطفال ولحنتها شقيقتي، وتضمنها كتاب يحمل النصوص ومرفق بسي دي. وبالتأكيد كافة مؤلفاتي مرفقة بـ “سي ديز” يضم الأغنيات الواردة في الكتاب. أما اصداري الأحدث ولد سنة 2019 فحمل عنوان “لبَّسْتِك الأبيض: عرايس الجليل بعدسة فوتو نبيل” وفيه بينت المتغيرات التي طرأت على ملابس العروس بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وما هي المؤثرات الاجتماعية والإقتصادية التي ساهمت بهذا التغيير.
*هل كانت طريق البحث سالكة وآمنة في ظل الاحتلال؟
**لم تعترضني مشكلة في موضوع جمع التراث، خاصة وأني تكفلت بتكاليف أبحاثي وإصدارها في كتب. حتى الآن ترفض حكومة الاحتلال إضافة أي من موضوعاتي التراثية إلى المنهاج الأكاديمي، خاصة وأنها تتضمن التاريخ والجغرافيا كما سبق وذكرت. فالاحتلال يتحاشى تلك الموضوعات لأنها كفولكلور تتضمن أسماء القرى والبلدات قبل تهويدها. وكذلك تذكر تلك الأغنيات تاريخاً عن تلك البلدات وسكانها.
*إلى أي حد تمكن الاحتلال من إقناع الآخرين بنسب ما سرقه من تراث فلسطين للشعب اليهودي؟
**لا أعتقد أنه يستطيع. ليس للمحتل أن يفلح حين يفتح مطعاً للفلافل في الولايات المتحدة الأمريكية ويقول للناس أنه طعام يهودي. نسب المحتلون لهم الطعام الفلسطيني والزي التراثي الفلسطيني ولم ينجحوا. تطريز “الستات” الفلسطينيات للثوب هو الذي يفرض نفسه، ولن يكون إسرائيليا بمجرد “أكم من وحدة لبست أكم من فستان وصار إسرائيليا”.
*هل من تضارب في المعلومات لدى الباحثين في التراث الفلسطيني؟
**تضارب المعلومات لدى الباحثين يفرض نفسه. وهنا أقصد أمرين. أولهما في كيفية تداولنا للأغنية الفولكلورية؟ هل نتركها على حالها، أم ندخلها في مجال التوزيع وتحسين الأداء والموسيقى والذي يُعرف بالتوزيع الموسيقي؟ هل نلبسها الثوب الحضاري أم نتركها على حالها؟ النقاش دائم حول هذا الأمر. والأمر الثاني الذي أقصده تفسير المعاني. كي أصل لتفسير أمر معين أطرح الكثير من الأسئلة، وبالنهاية الإجابة التي أجدها مناسبة أعتمدها. فنحن لا نملك قاموساً يفسِّر تلك المعاني، باستثناء القاموس الذي أنجزه الراحل عبد اللطيف البرغوتي “التعابير الشعبية الفلسطينية” مع العلم أن ذاك المجلد الوحيد لم يتضمن كافة ما نتداوله من تعابير شعبية.
*كم أنت راضية عن الأصوات التي تغني التراث الفلسطيني في الداخل والشتات؟
**راضية كل الرضى عن أي صوت يغني الفولكلور وأرحب به. عندما أقدم محاضرات وفي كافة أنحاء “البلاد” وفي الخارج من الأردن إلى الدانمارك، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وفيها جميعها كان الرابط بين الجميع الأغنية. والأغنيات نوعان، النوع الذي أقول فيه الجملة كمؤدية ويرددها الحضور من بعدي. والنوع الثاني وهي الأغنيات الفلاحية التي يعرفها الجميع كما “الروزانا وهلالالية، ورمانك يا حبيبي”. كل من يغني الفولكلور مُرحب به، إنما قمة الرقي في تقديم الفولكلور تمثل في البرنامج الذي أنجزته مع المطربة المتألقة والفلسطينية المبدعة دلال أبو آمنة. قدمنا معاً معظم أنواع الغناء، من أغنيات الطفولة، والأعراس وغيرها. وتمت مسْرحتها جميعها من خلال حوار مشترك بيننا ومن ثم كانت تقدم الأغنية. إنها أغنيات غاية في الروعة.
*هل اشتغلت بغير التدريس؟
**درّست الموسيقى على مدى 30 سنة، وتقاعدت منذ 24 سنة. كنت معلمة موسيقى لأني نشأت في بيت موسيقي خاص ومميز، وكنّا فرقة موسيقية من الأب والأم والأبناء الخمسة. مارست الكتابة الصحافية الأسبوعية على مدار 13 سنة، واستمر ذلك إلى حين سقوط بغداد فسقط معها قلمي. إنها مهمتي في الحياة.
*ما الذي يشغلك ولم تهتدِ إليه من التراث بعد؟
**إنه أكثر بكثير مما كتبته، رغم أني كتبت مئات الموضوعات. فالنبع الفيّاض الذي اسمه تراثنا الشعبي لا ينضب. لدينا كم هائل من الأغنيات، فأغاني “المهاهاها” لا تعد ولا تحصى وفي كتبي حوالي 600 منها. لا تزال هناك الكثير من الأغنيات في “كمام النسوان” لكنني في الحقيقة تعبت من الترحال والسفر بين البلدان لمقابلة سيدة هنا أو هناك للحصول على الأغنيات التي في حوزتها. ومن ثم تدوينها وكتابتها وتحليلها. انشغلت كثيراً بالأغنيات وما أزال، واعتبرها اختصاصي. أما سواها من الحسد وضربة العين، ولماذا الحلاقة للعريس، ولماذا نجلّي العروس؟ جميعها مواضيع منبثقة من قلب الأغنيات، فتعاملت معها بقدر ما سمح به وقتي ووضعي الاجتماعي. فأنا ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء، ورحل زوجي قبل سنتين. وبقدر ما سمح لي الوقت كتبت وحللت في موضوعات التراث الشعبي.
*وهل لديك نشاط اجتماعي وإنساني في مدينة الناصرة؟
**نعم. أنا عضو في لجنة تدير حضانة في مدينة الناصرة تتبع لمجلس الطائفة الأرثوذكسية. ومن مهماتي زيارة تلك الحضانة مرّة كل أسبوع لتقديم حكاية شعبية للأطفال، وتعليهم أغنية فولكلورية. وهذه التجربة حققت نجاحاً باهراً. ومن ثم وجدت نفسي أخصص وقتاً لحضانات أخرى رغم ندرته.