في الأدب أحداثٌ ووقائعُ يسجلها التاريخ، فالخلود الذي يرسو عنده هذا الحلم، يظل مشدودا إلى ظواهر تتناقلها نصوص غائبة، تسعى نحو تجسير حوار بناء بين القديم والحديث. فمن زاوية التفاعل والانفتاح، يصبح العبور آمنا بين عظماء في التاريخ الإنساني، ويصبح أيضا ـ أي العبور ـ ذا مغزى يعجُّ بعبر وقيم نبيلة، تخدم تاريخ الأدب. فمهما حاول النقد الأيديولوجي الحديث أن يطمس هذه الحقائق التاريخية، إلا أنها تظل موشومة في ذاكرة الأدب، تطفو بين الفينة والأخرى في الساحات الفكرية، وتتلون بمنطق العصر.
في الأدب الغربي، كما هو معروف، مساحات شاسعة ومضيئة من قول وحرية وإبداع، ينتقل عبرها الأديب نحو العالمية والخلود بفعل الانتشار الواسع للترجمة والطباعة، والمنافسة الشديدة بين دور الطبع والنشر. فكان الأدب الألماني، من هيغل إلى حدود برتولد بريخت مرورا بهولدرلين، قد استفاد من هذا التطور وغيّر مجرى التاريخ في أوروبا. فما عسى لشاعر ألمانيا العظيم يوهان فون غوته، إلا أن ينظر إلى ما يخلده في الأدب. فعبر مصفاة المسرح، باعتباره أبي الفنون، استطاع غوته أن يكون مسرحيا وشاعرا وفيلسوفا، وتمكن من أن يخلق لنفسه هالة من جنون العظمة؛ أسوة بأبي الطيب المتنبي في الأدب العربي، الذي اختار المنفى بقوله الشهير من الوافر:
أنا ترب النوى ورب القوافي
وسَمَّام العدا وغيظ الحسود
أنا من أمة تـداركها الله
غريب كصالح في ثمود
ففي كتاب « من حياتي ـ شعر وحقيقة « لغوته، كان يتنبأ بلقاء عظيم سيجمعه بالإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت. وبفعل تأملاته الفلسفية الواعدة تمكن شاعرنا من أن يستحضر، على ستار المسرح، كل العظماء والمشاهير في المسرح وغيره، الذين مروا في التاريخ الإنساني، وبصموا تجربتهم بالروعة الاستثنائية. فكيف تمكن شكسبير مثلا من العبور الآمن نحو الثقافة العالمية؟
استدعي هذا السؤال من الروائي الفرنسي ذي الأصول التشيكية ميلان كونديرا، أن يقلب أوجاع الإليزيه، عندما تناول فاليري جيسكار ديستان، مع الزبالين، أول فطور له في القصر الرئاسي الفرنسي. أفي ذلك حكمة تـُحسب للأدب أم للسياسة؟ وإلى أي حد استطاع جيسكار ديستان أن يحصل على جواز سفر داخل الثقافة الفرنسية؟ إن هذا الالتفاف حول البسطاء، من الشعب الفرنسي، استغله خصومه السياسيين. وعلى ضوء ذلك، باتوا يقلبون أوجاع السلطة السياسية في فرنسا؛ إلى أن تمت الإطاحة به في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وعقب ذلك، وبفعل سنة التطور والإبدال، الذي لحق المجتمع الفرنسي، التف ملايين من الفرنسيين حول فرانسوا ميتران، بعدما ارتقى سلما واسعا كما فعل شكسبير.
لم يكن لقاء يوهان فون غوته بالإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، في العشرية الأولى من القرن التاسع عشر، مجرد اعتراف مبدئي بالدور الذي يقوم به الشاعر في نسيج المجتمع، وإنما هو تثبيت خريطة جديدة بات عليها العالم بعد الحملة النابوليونية، خصوصا عندما أعاد الإمبراطورية الروسية إلى حجمها الطبيعي، وإلى سابق عهدها في مجاهل القوقاز. غير أن طموح نابليون، وعطشه الشديد إلى سفك دماء الأبرياء في الشرق العربي، لم يقف عند هذا الحد، بل أراد أن يخلد إنجازاته في تاريخ الإنسانية جمعاء؛ لذا كان لقاء نابليون وغوته لقاء بين شاعر وعسكري.
في وقوف نابليون بونابرت، إلى جانب مصوريه، كما وصفه الروائي الفرنسي ميلان كونديرا، احترام وإجلال لعظمة هذا الشاعر. فوضع بونابرت يده اليمنى تحت سترته، وراحته على معدته، وفي هذه الوضعية رسالة ضمنية ومشفرة، يخاطب من خلالها المصورين بأن يفرقعوا، بشكل مكثف، آلات تصويرهم حتى يأخذوا صورا تستحق أن تنشر على الصفحة الأولى من الجرائد. إن جنوح نابليون نحو الشاعر، هو جنوح نحو الخلود في الذاكرة والتاريخ؛ لأن القول الشعري له جاذبية خاصة، تخترق كل الأزمنة والأمكنة.
ففي ثنايا هذا الحديث الشائق، الذي دار بين بونابرت وغوته، جعلا معا من المسرح مدرسة الشعب، ولأن العسكري كان من المولعين بأبي الفنون، خصوصا مسرحيات فولتير وشكسبير حول الإمبراطورية الرومانية، التي كان يقبل عليها بنهم وشغف، استطاع نابليون أن يحمل الفشل الذريع للمجتمع إلى الشاعر، كما هو الشأن بالنسبة لمسرحية «موت قيصر» لفولتير. وعلى غرار ذلك، كان غوته شديد الحذر من هذا العسكري الطموح، الذي تفتحت شهيته إلى ضم العديد من البلدان، شرقا وغربا، إلى امبراطوريته. فمن بين النقاد من يرون أن الحملة النابليونية على مصر كانت بدافع تأثره البالغ برواية غوته الشهيرة «آلام الشاب فرتر». فلا مجال إذن إلى تصور تلك العلاقة السديمية بين المثقف والسياسي؛ التي مازالت تلقي بظلالها على المشهد السياسي ما بعد الحملة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر.
٭ كاتب مغربي