اليوم تثار من جديد الأسئلة عن أفق الصراع في ظل توسع الاستيطان ومخططات الضم، وتوغّل إسرائيل في اليمين، وعن أفق القضية الفلسطينية في ظل اتفاقيات التطبيع التي دشنها الرئيس الأمريكي السابق ترامب بين دول عربية وكيان يحتل الأرض والبحر والسماء. مع وجود جو بايدن في البيت الأبيض، تراجع كل ذلك قليلا إلى حد ما، ولكن تأتي جهود بايدن في الآونة الأخيرة لتحقيق التقارب بين السعودية وإسرائيل مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل. المملكة العربية السعودية تسعى للحصول على تنازلات من الولايات المتحدة، بما في ذلك ضمانات أمنية، ودعم لبرنامج نووي مدني، والحصول على أسلحة، مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مع العلم أنّ اسرائيل لن تسمح بتفوق نوعي عسكري عليها بأي حال من الأحوال، وأمريكا لا تقدم سوى أسلحة تقليدية أقل كفاءة من تلك التي تقدمها لتل أبيب.
يبدو أنّ الرئيس الأمريكي يرغب في تسجيل إنجاز وحيد بائس ضمن فترته الرئاسية قبل أن يودع البيت الأبيض، وهو إتمام صفقة التطبيع بين السعودية وكيان الاحتلال الصهيوني. هو يعلم أن الناخب الأمريكي ومراكز صنع السياسة والقرار في أمريكا، لن يعيدوا انتخابه لأسباب عديدة. بالتالي لم يبق له سوى محاولات يائسة تسجل لرئيس أمريكي آخر، على حساب قضية تحرير وطني وتقرير مصير عبث بها العالم أجمع، وأصبحت محل مزاودات انتخابية في الداخل الأمريكي. فلسطين من جهة والعالم من جهة أخرى تبدو الصورة هامارتيا حقيقية بالمعنى الإغريقي القديم، يزيد في تعميق تراجيديتها حالة العرب ومدى انقسامهم وضعفهم وانهزاميتهم غير المسبوقة في التاريخ.
تستفيد إسرائيل مرة أخرى من بنيتها الاستعمارية والإحلالية على الأراضي الفلسطينية المسلوبة. وما يسمى بالاتفاقيات الإبراهيمية لتطبيع العلاقات بين الاحتلال وعدّة دول عربية، هو تحالف بين قوى قمعية، اتفاقيات أضفت الطابع الرسمي على العلاقات التي كانت ضمنية لسنوات عديدة بين الدول الأكثر رجعية في منطقة الشرق الأوسط والكيان الصهيوني، وكما أشار المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، فإنّ السعودية عضو ضمني فيما يُسمى «اتفاقيات أبراهام» الخاصة بالتطبيع.
لقد تم تجاهل الفلسطينيين كليا في جميع الاتفاقيات، ولا شيء لهم فيها. هذه الاتفاقيات تُظهر على السطح الترتيبات والتفاعلات التي كانت موجودة لفترة طويلة أصلا بين هذه الدول، والآن تم إظهار كل ذلك على السطح. ليس للفلسطينيين أي دور في «صفقات أبراهام» في الواقع، لا يوجد دور في هذا لأي شخص ليس جزءا من التحالف الرجعي، الذي راهنت عليه الولايات المتحدة الأمريكية. النظام السياسي في إسرائيل، استفاد بشكل مباشر من صعود حركات اليمين الشعبوية إلى الحكم في عدة مناطق في العالم، حيث استطاع بناء أنماط جديدة من التحالف، التي لا يعكرها أي اهتمام، وإن كان محدودا، بأسئلة حقوق الإنسان. اعتراف ترامب بالاحتلال غير الشرعي لإسرائيل بالقدس والجولان السورية، في انتهاك لقرارات مجلس الأمن، شجع على التمادي في سياسات التوسع والاستيطان الصهيوني، إلى درجة تشير فيها كل الدلائل إلى أن هناك سعيا للتخلص من الفلسطينيين من خلال مصادرة أراضيهم بشكل دائم، أو من خلال عزلهم مثل ما يحدث في قطاع غزة من حصار متواصل. كل ذلك ليس مستغربا لأنّ إسرائيل قامت كمشروع استيطاني استعماري على طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتطهيرهم عرقيا، في ما عُرف بالنكبة. وهي تواصل سياسة التطهير والتهويد، بالتالي هي لم تقم من العدم.
حالة الضعف العربي تجعل مكاسب الفلسطينيين محدودة، الظروف الجيوسياسية في المنطقة قد تغيرت، وإسرائيل حققت اختراقات كثيرة في الجبهة العربية
الإسرائيليون أنفسهم من أمثال المؤرخ إيلان بابيه يشيرون إلى أن مصطلحات مثل «الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» ليست دقيقة، ذلك أن توازن القوى بين الدولتين أوضح من أي وقت سبق. كما أن الإشارة إلى التعقيد المفترض لهذا الصراع، لا يتحدث عنه إلا من يريدون تبرير انتهاكات الحكومة الإسرائيلية. ربما المأزق الحقوقي الذي تتعرض له إسرائيل، وتدرك جيدا أنها «تفقد الدعم بين قطاعات الرأي العالمي المهتمة ولو قليلا بحقوق الإنسان والحقوق المدنية»، كما يشير تشومسكي. كل ذلك يجعلها تربط العلاقات التي بدأت ببلورتها في السنوات الأخيرة من أجل تعويض ذلك، مع دول أقل اهتماما بالمسائل الحقوقية، مثل الهند والصين، ومع دول عربية تشبهها من ناحية الاعتماد على الولايات المتحدة، وإهمال الحقوق والحريات. فكر سياسي عربي معقد ومهزوم، يُبنى على مصالح ضيقة وعلى رؤية استراتيجية قُطرية محدودة، بعيدة عن مطالب الأمة العربية، وعن مصيرها الذي يفترض أن يكون مشتركا ووحدويا. جرّب العرب القومية والقطرية والليبرالية والاشتراكية والملكية والإسلام السياسي، ولم ينجحوا في بناء المشروع الوطني الذي يتكامل ضرورة مع المشروع القومي الوحدوي، هي بعض من خيبات النُّظم الحاكمة وفسادها السياسي وتخلّفها البنيوي. ويبدو أنّ الوقائع التاريخية في علاقة المنطقة بالقوى الخارجية، أثبتت أنّه ليس أي من القوى الإمبريالية، معنية بالقومية العلمانية لأنها تشكل خطورة عليها، لهذا حطموا الدولة الوطنية في عراق صدام حسين، وفي مصر عبد الناصر، عندما وصلت هذه الدول إلى تحقيق قدر محترم جدا من التقدم المادي والعلمي. في المقابل، يمكنهم التعايش مع الإسلام الراديكالي لأنهم يستطيعون السيطرة عليه. فقد دعمت الولايات المتحدة هذا الاتجاه بقوة، كما فعل البريطانيون عندما كان الإسلاميون القوة الحاكمة في المنطقة. تمت الأمور على هذا النحو منذ الستينيات عندما كان هناك صراع واضح بين الإسلام الراديكالي والقومية العلمانية، ثم أعادوا التجربة بعد 2011 وهم في مراوحة بين هذه الخيارات إلى الآن. هل إسرائيل مستعدة لتقديم تنازلات للفلسطينيين في سبيل تحقيق التطبيع مع السعودية؟ الإجابة لا قطعا. بالتالي هو تطبيع آخر مجاني يقدم لإسرائيل ولمشروع دمج إسرائيل، وجعلها من الشرق الأوسط، دون أدنى مكاسب فلسطينية. وبالنسبة إلى المبادرة العربية، فهي لم تعد تصلح أساسا للمفاوضات في الوقت الراهن، وهي التي راهنت على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في 1967 مقابل سلام شامل وتطبيع كامل بين الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية وإسرائيل. الآن حالة الضعف العربي تجعل مكاسب الفلسطينيين محدودة إلى حد بعيد، الظروف الجيوسياسية في المنطقة قد تغيرت. وإسرائيل حققت اختراقات كثيرة في الجبهة العربية، على هذا الأساس باتت هذه المطالب التي عنوانها السلام الشامل من الماضي، ولا أحد يمكنه الإقرار بأنها ما زالت صالحة، أو يمكن التمسك بها مع ما يحدث من تغير في المواقف والسياسات.
كاتب تونسي