■ نازك الملائكة (1923- 2007) شاعرة وناقدة عراقية معروفة. يعتقد الكثيرون أنها أول من كتب الشعر الحر في عام 1947، وقد مثلت نازك إلى جانب الشاعرين بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي الثلاثي العراقي، الذي قاد حركة الشعر الحر، وهي تتدفق بزخمها مثل النهر المتعطش في كل البلاد العربية. صدرت لها سبع مجاميع شعرية؛ بما في ذلك «عاشقة الليل» (1947)، «شظايا ورماد» (1949)، «قرارة الموجة» (1957)، «شجرة القمر» (1968)، «ويُغير ألوانه البحر» (1970)، غير أنها لم تُنْصف شعريا. وبحكم ثقافتها الواسعة وتعليمها الأكاديمي العصري، زاوجت نازك بين الشعر والنقد. كتبت مقالات كثيرة في سياق صعود حركة الشعر الحر والدفاع عنها، ولاسيما في مجلة «الآداب» البيروتية، وأصدرت ثلاثة كتب في نقد الشعر، بيد أن أشهرها هو «قضايا الشعر المعاصر» (1962). لا يبسط هذا الكتاب عوامل ظهور الحركة الشعرية، وأسلوب الكتابة بالتفعيلة، وغير ذلك مِما له صلة وحسب، بل كذلك أثار نقاشًا واسعًا في المشرق والمغرب، بين مؤيد ومعارض، لم يسبق أن أثاره أي كتاب نقدي في كل الأزمنة الحديثة، ويكفي للقارئ والمتتبع أن يبحث أثر الكتاب وإشعاعه، بعد نصف قرن من صدوره، حتى تَرِدَ عليه الأصداء المتراحبة من كل فج عميق. ورغم حياتها الحافلة بالعطاء، والتي لم تَخْلُ من أحداث مأساوية في بعض المرات، لم تترك لنا الشاعرة سيرة ذاتية أو شعرية، إلا ما ظل يلتمع بين قصائدها التي ضمتْ حزن القرار إلى ارتخاء النظرة المتأملة.
لم تهتم نازك الملائكة بالتأريخ لتجربتها في كتاب مستقل، لكن أمشاجًا من هذه التجربة نثرتها بين مقدمات مجمل مجاميعها الشعرية، وكشفت بعضها في «لمحات من سيرة حياتي وثقافتي»، كما نقلت حياة شرارة «صفحات من حياة نازك الملائكة». فمنذ طفولتها كانت نازك ميالة إلى الانعزال، جادة وقليلة الكلام. تقول: «كنت أعتزل المجتمع لكي أقرأ وأنظم القصائد المتتالية وعندما بلغت السادسة عشرة أصبحت أعد العزلة فضيلة الشاعر وحرية الإنسان المفكر، ونبذت المجتمع وانطويت على نفسي، ولكني بعد الثلاثين أصبحت أجد سعادة في الصداقة ومعرفة الناس وتذوق ما في شخصياتهم من جوانب جميلة».
وقد تفتقت موهبتها مُبكرًا وأدركت، وسط عائلة مثقفة أغلب أفرادها شعراء، ضرورة توسيع ثقافتها لصقل موهبتها الشعرية وإغنائها. وكان لأمها الشاعرة، أم نزار الملائكة، الأثر الواضح في حياتها الشعرية. مثلما تأثرت بالشعر الحديث الذي كان يمثله، وقتذاك، محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه وعمر أبو ريشة وبشارة الخوري وأمثالهم. وأقبلت على قراءة الفلسفة وتأثرت على الخصوص بفلسفة شوبنهاور المتشائمة. وما أن دخلت دار المعلمين العالية في بغداد، حتى حفزت قواها الإبداعية وجعلتها أكثر اندفاعًا وحمية في نظم الشعر الوطني بعد صعود المد الثوري في بداية الأربعينيات.
وقبيل صدور ديوانها الأول «عاشقة الليل» (1947) بأشهر قليلة، كتبت نازك قصيدتها المعروفة «الكوليرا» تحت تأثير شعورها بالصدمة من الوباء الذي انتشر في مصر وأزهق مئات الأرواح. كانت قصيدة «الكوليرا» في حد ذاتها حدثًا مهما في حياة نازك ومستقبلها الشعري. وقد يكون تلقي والديها للقصيدة بالجفاء وموقفهما غير المشجع، ما يبرر عدم تطرفها في نبذ شعر الشطرين، إلا أنها مع ذلك لم تتورع عن نقد شعراء التقليدية، كما في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» (1949)، التي كانت ـ كما تقول حياة شرارة- «بمثابة البذرة التي نمت منها دراساتها ومقالاتها التالية حول الشعر والشعر الحر»، وظهرت على امتداد الخمسينيات من القرن العشرين في مجلتي «الآداب» و«الأديب» تحديدًا، قبل أن يضمها كتابها «قضايا الشعر المعاصر». استهلت نازك تلك المقدمة بعبارة برنارد شو: «اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية»، ووجدت صحة تطبيقها في الشعر، باعتباره «وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها». ففي نظرها لا تعارض بين هذا الرأي ورأي النقاد في تقسيم الشعر إلى مذاهب واتجاهات (كلاسيكي، رومانتيكي، واقعي، رمزي، سيريالي) لأنها ليست قواعد، وإنما هي أحكام، داعيةً إلى الابتكار الشعري بمنأى «عن سلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة»، فإنه بوسع الشعر أن يكون شعرًا، إن خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل. كما دعت إلى منح اللغة آفاقًا جديدة عبر «قوة الإيحاء التي تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتحرق التي تملأ أنفسنا اليوم».
وقد وقفت عند بعض قصائد الديوان، التي استشهدت بها، على اعتبار أنها نماذج جسدت نمطًا من «الخروج» على القواعد العروضية المألوفة، ولاسيما في ما يتعلق بترتيب التفعيلات عبر الأسطر في علاقة بمدى التعبير عن المعنى، ودفق الأسلوب الشعري. وعن القافية التي نعتتها بـ(الآلهة المغرورة)، أومأت إلى «الخسائر الفادحة التي أنزلتها القافية الموحدة بالشعر العربي طوال العصور الماضية خنقت أحاسيس كثيرة، ووأدت معاني لا حصر لها في صدور شعراء أخلصوا لها». غير أنها استحسنت ما يصنعه شعراء جيلها الذين استخفوا بسلطان القافية، وخرجوا عليه، فاستعملوا نظام الرباعية وأشباهها من خلال التنويع في القافية أو إرسالها. وعطفًا على «قوة الإيحاء»، لفتت نازك إلى استغلال القوى الكامنة وراء الألفاظ، واستدلت على ذلك بطائفة من القصائد التي عالجت فيها حالات تتعلق بالذات الباطنية حينًا، وباللاشعور حينًا آخر، مثل (الخيط المشدود في شجرة السرو)، و(مرّ القطار) و(الأفعوان).
إذا كان ثمة لاوعي سياسي جريح داخل حداثتنا الشعرية، فإحدى علاماته المثلومة يرجع إلى نازك الملائكة، «الشاعرة الوجلة الدؤوبة بحساسيتها العالية» حسب تعبير أحد طُلابها الشاعر هاتف جنابي، وهي التي ظُلِمت مرتيْنِ؛ في شعرها حين كان التجديد عملة نادرة، وفي حياتها حين نُفِيتْ قَسْرًا ودُفِنتْ خارج بلدها العراق وسمائه التي ألهمتها أنبل المعاني.
ولم تشأ نازك أن تختم مقدمتها البيان من غير أن تؤكد على إيمانها الحار بمستقبل الشعر العربي، وتنبئ قارئها بأن الشعر العربي الحديث على حافة تطورٍ مُهم يشمل كل صعد القصيدة، ويعصف بالتقاليد التي قيدتها، وهو تطورٌ يحدث نتاج لقاء بين ثقافتين فأكثر.
أرخت نازك الملائكة، بوعي، لأسباب نزول قصيدة «الكوليرا» ومراحل كتابتها والانفعال بها وطريقة تلقيها من طرف الأهل، ولم تعد إليه بوضوح. وكانت تريد أن تعطي لسيرة هذه القصيدة معنى أكثر دلالةً في تاريخ الشعر الحديث، إذ كشفت عن لحظات طريفة ليس من تكونها وحسب، بل من تشابكها مع العابر – نصي.
فمن جهة أولى، تكشف عن علاقة الذات الكاتبة انفعاليا بما تريد أن تكتبه أو تحلم بكتابته، وامتدت هذه العلاقة لأيام حتى تستطيع التعبير عن ضغط الحافز؛ «التعبير عن مأساة الكوليرا» التي ضربت مصر، وكانت تلتهم المئات من الناس كل يوم. والأطرف أنها مخضت في ذهنها شكل القصيدة وبناءها الإيقاعي الشطري والمقفى أكثر من مرة، إلا أنه كان يخيب توقعها فلا يرتوي «ظمأ التعبير» عن حزنها ولا ترتسم «صورة الإحساس المتأجج» في نفسها.
ومن جهة ثانية، تكشف عن حاجة ضرورية للتعبير الصادق عما تحس به داخليا بأسلوب آخر غير الأسلوب المطروق، على الأقل من الناحية الشكلية العروضية التي يعيق التعبير، أو يفتعل فيه كما أومأت إليه: نظم القصيدة باستعمال شكل الشطرين المتناظرين في هذا الوزن أو ذاك، القافية وتنويعها بعد كل أربعة أبيات أو نحو ذلك.
هكذا، في لحظة صحو واسترخاء بعد نوم وتحت ضغط الحافز وتأثرها به (عدد موتى الكوليرا بلغ أَلْفًا..)، تصور الشاعرة رغبتها القوية للتعبير في مكان هادئ يعينها على تنظيم أفكارها وإيقاع ذاتها وهي تكتب: «فَرُحْتُ أكتب وأنا أتحسس صوت أقدام الخيل: «سكن الليل/ اصغ، إلى وقع صدى الأنات/ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات». ولاحظت في سعادة بالغة أنني أعبر عن إحساسي أروع تعبير بهذه الأشطر غير المتساوية الطول، بعد أن ثبت لي عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة الكوليرا، ووجدتني أروي ظمأ النطق في كياني، وأنا أهتف: «الموت، الموت، الموت/ تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت». وفي نحو ساعة واحدة انتهيت من القصيدة بشكلها الأخير». فهي إذن، تُؤكد أن اكتشاف الشعر الحر ذي الأشطر غير المتساوية إنما أتى عن حاجةٍ لتعبير صادق، وليس تبعًا لترتيبات شكلية سابقة عليه. إلا أن ابتهاجها بهذا الاكتشاف العفوي والعجيب لم يكتمل، بعد أن أطلعت أفراد عائلتها بالقصيدة الذين لم يتحمسوا لها وتلقوْها بسخرية واستهزاء، بمن فيهم أُمها الشاعرة وأبوها ذو الثقافة الشعرية. ولكنها ردت عليهم بوثوقية واندفاع: «قصيدتي هذه ستغير خريطة الشعر العربي، ومنذ ذلك التاريخ انطلقتُ في نظم الشعر الحر».
ولم تنْسَ نازك الملائكة أن تُؤرخ لسيرة القصيدة وانهماكها عليها بـ«في يوم الجمعة 27 ـ 10 ـ 1947»، وكأنها تثبت بذلك سَبْقها إلى اكتشاف الشعر الحر، وبالتالي عدم معرفتها به قبل هذا التاريخ، وكأن توقيعها سيظل شاهدًا على امرأة كسرت عمود الفحولة بعبارة عبد الله الغذامي، ووقفت وحدها بثبات على ميدان الرجال وحرابهم المنقوعة.
كانت المقدمة التي وضعتها نازك لديوانها الثاني «شظايا ورماد»، بتاريخ الثالث من فبراير/شباط عام 1949، علامةً فارقةً ليس في حياتها الشعرية وحسب، بل وفي حياة الشعر العربي الحديث نفسه، بحكم ما تضمنته من قضايا منهجية ومعرفية تطرح بهذا الوضوح والعمق لأول مرة، بمنأى عن الإنشائية والشعارية، إلى حد التسمية بأنها وثيقة تاريخية فصلت بين طوري القصيدة العربية ورفعت سقف مطالب الحداثة في سعيها إلى بناء شعرية عربية جديدة.
غير أن حماسة البدايات أسقطت نازك الملائكة في سوء فهم وتقدير مصطلح «الشعر الحر»، الذي أثار تاريخًا من «الالتباسات» في صميم الحركة الشعرية وسجالها وتحولاتها، التي لم تنقطع. لكنها لم تدخر جهدًا لتفسير ما كانت تؤمن به من خلال «منبر النقد» في مجلة «الآداب»؛ حيث كانت تجري مناقشات حادة حول الشعر الجديد، وكانت نازك تركز على بيان إواليات الشكل وضروب الصياغة التي نزع إليها هذا الشعر وأخذ يستقر عليها. ففي العدد الرابع من مجلة «الآداب» (1961)، تمثيلًا، كتبت نازك الملائكة مقالًا بعنوان: من «قضايا الشعر المعاصر»: قصيدة النثر، تحتج فيه على استخدام منظري (شعر) مصطلح «الشعر الحر» للدلالة على قصيدة النثر التي يدعون إليها، مشيرة إلى أن هذا المصطلح أُخذ من توصيف «الآداب» للشعر العربي الجديد الذي كانت تنشره محافظًا على تفعيلات الخليل، ومتصرفًا بها، والمقال هو جزء من السجال الطويل بين مجلتي «الآداب» و«شعر».
ولكن بعد ذلك السجال الذي امتد سنين عددًا، وأصبح اليوم من تاريخ الفكر، حَسْبُ نازك الملائكة أنها كانت رائدة التنظير النقدي لحركة الشعر الحر في بداياتها الصاخبة، ولولا كتابها ذائع الصيت وما أثاره من سجالات ورؤى فكرية وجمالية، لكانت الحركة قد تأخرت في ميدان التنظير لها والتبشير بها، بل لولاه لما جَدد الفكر الشعري عند العرب آليات النقد ونقد النقد وتَمرن على كيفية إعمالها في المحاججة والإقناع. إن جميع تلك الدراسات التي نعرفها في نقد الشعر «قد تسلمتِ الخيطَ من دراسةِ نازك، فكانَ الطريق معبدًا منهجيًا لكل الإنجازات الأخرى، وليس في هذا أي ضير، لأن مهمةَ البحث العلمي ما هي إلا إنجاز شيء ـ ولو على نحو جزئي ـ يُعبد الطريق لبحثٍ آخر يأتي بعده، ليتمكن من إنجاز شيء أعمق، وأفضل، وحسْبُها أن كل دراسة في حركةِ الشعر الحديث تُعد قاصرةً، إن لم تقف على إنجازاتها، أو تُشِرْ إلى دورها النقدي، أو تُلمحْ إليها» على حد تعبير الناقد العراقي عبد الرضا علي.
ولكن إذا كان ثمة لاوعي سياسي جريح داخل حداثتنا الشعرية، فإحدى علاماته المثلومة يرجع إلى نازك الملائكة، «الشاعرة الوجلة الدؤوبة بحساسيتها العالية» حسب تعبير أحد طُلابها الشاعر هاتف جنابي، وهي التي ظُلِمت مرتيْنِ؛ في شعرها حين كان التجديد عملة نادرة، وفي حياتها حين نُفِيتْ قَسْرًا ودُفِنتْ خارج بلدها العراق وسمائه التي ألهمتها أنبل المعاني.
٭ شاعر مغربي
نازك ساهمت كثيرا في التجديد والتغيير المفصلي لحركة الشعر في اتجاهات مغايرة وأفاق حديثة تحت مسمى قصيدة التفعيلة او الشعر الحر.