لا بد لكل من زار مدينتي «كيوتو» الأثرية العريقة و«ناغازاكي» أن يتذكر ويتأمل طويلاً التاريخ البشري البشع، المشبع بالجريمة والكذب والدم، والكثير من الصدف المنقذة أو القاتلة. كان يمكن أن تكون مدينة كيوتو اليوم ونحن نستعيد جريمة إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، قد محيت من الخارطة نهائياً هي وسكانها، بعد تلقيها الضربة النووية الأولى أو الثانية. لكن صدفة مشفوعة بإرادة بشرية قوية حمتها لتعوضها في آخر لحظة بمدينة ثانية هي ناغازاكي، التي «استشهدت» كما يفعل الكاميكاز أو الساموراي، في مكان كيوتو. ما الذي جعل مقررو القصف النووي يغيرون رأيهم في قصف كيوتو في اللحظات الأخيرة؟
هناك في تاريخ البشرية لحظات لا يحكمها منطق ظاهر، ولكنها ثمرة منطق خفي يحتاج إلى شيء من البحث لجعله مرئياً، بما في ذلك الكوارث التي مست البشرية عبر التاريخ. هذا ما حدث مع مدينة كيوتو التي كان مقرراً أن تباد مع هيروشيما. روايات كثيرة وردت حول هذا الموضوع، لعب فيها العنصر الذاتي دوراً حاسماً في تغيير مسار القنبلة النووية.
عندما أصبح مشروع منهاتن النووي السري الذي أطلق في سنة 1942، جاهزاً، بدأ التفكير في المدن التي تستقبل أولى الضربات النووية، وكان واضحاً أن المدينة/ المدن ستُدمر كلياً وتُحرق عن آخرها في قطر مركزي يتجاوز 12 كيلومتراً، إضافة إلى ما يمكن أن يحدث من محو خارج هذا المركز. وقد كونت لجنة مختصة؛ لتحديد الخيارات الأساسية السرية قبل عرضها على الرئيس الأمريكي نهائياً للتصديق عليها. اشترك لتنفيذ الضربات وتحديد الخيارات السرية وقتها ما سمي بلجنة تحديد الأهداف(Target Committee) المكونة من: توماس فاريل (نائب مدير مشروع منهاتن النووي) وعالم الرياضيات جون فون، والفيزيائي الكبير ويليام بيني، الذين اجتمعوا ما بين 10 و11 مايو 1945. وانصب الاهتمام في البداية على المدن اليابانية التالية:
أولاً: كيوتو، عاصمة اليابان القديمة والعريقة. المدينة الأثرية المعروفة اليوم بثقلها التاريخي/ الأسطوري وبمعالمها الساحرة والشديدة القدم التي تبين القدرات البشرية في المجال الإبداعي والعمراني. وكان القصد من ضربها لمعانيها التاريخية والرمزية وإحداث الصدمة النفسية.
ثانياً: هيروشيما، وكانت واحدة من أهم القواعد العسكرية وحائط صد دفاعي في الحرب الصينية اليابانية في سنتي 1894-1895. ومساحتها الواسعة مناسبة للانفجار النووي.
ثالثا: يوكوهاما، لكنها أهملت لأنها كانت قد تعرضت في وقت سابق لقصف جوي كلاسيكي. مثلما حدث مع طوكيو التي نزعت من قائمة القصف النووي.
رابعاً: نيغاتا أو ناغازاكي، وكوكورا نظراً لطبيعتها الجغرافية واستراتيجية موقعها العسكري.
ويضيف الباحث روبر يونك Robert Jungk، مدناً أخرى إلى ما ذكر في حالة عدم استجابة اليابان «إضافة إلى مدن هيروشيما وكوكورا ونيغاتا، توجد مدينة المعابد الكثيرة، كيوتو. فعندما سمع المختص في اليابان إيدوين رايشكوير بالخبر، ركض نحو مكتب مسؤوله المحامي الماجور ألفريد ماك كورماك في مكتب المخابرات العسكرية وأخبره، فلم يستطع هذا الأخير أن يتحمل ما سمعه، فانفجر بكاء. فأقنع سكرتير الحرب هنري ستيمسون، بضرورة تأجيل قصف كيوتو وسحب المدينة من قائمة المدن الأساسية AAA المبرمجة للقصف لتركيع اليابان. لكن رايشكوير رفض هذه التصريحات في كتابه «حياتي بين اليابان وأمريكا» (1986) وأكد أن « الشخص الوحيد الذي يعود له الفضل الكبير في إنقاذ كيوتو من التدمير هو هنري لويس ستيمسون Henry L. Stimson سكرتير الحربية وقتها، الذي كان قد عرف وأعجب بكيوتو في فترة قضائه شهر العسل فيها، قبل ثلاثة عقود». وهذه الفكرة تم تأكيدها من طرف ريشارد روديس، الذي فصّل في رفض ستيمسون قصف مدينة كيوتو ووقوفه ضد قرار الجنرال ليسلي كروفيس الذي كان قد قرر بشكل عسكري كلياً قصفها لإحداث ضربة نفسية صادمة في قلب اليابانيين والإمبراطور، المرتبطين روحياً بهذه المدينة التاريخية شبه المقدسة. وبعد أخذ ورد ونقاش حاد دخلت فيه الثقافة كعنصر حاسم بين أعضاء لجنة تحديد الأهداف Target Committee سحبت كيوتو من قائمة المدن المستهدفة بالضربات الأولى وعوضت بمدينة ناغازاكي التي تلقت الهجوم النووي الثاني الذي شنته الولايات المتحدة، بعد هيروشيما. كان يمكن أن تبيد القنبلة النووية الأولى أو الثانية 300 ألف من ساكني كيوتو، ومن زوارها الموسميين. لهذا لا غرابة في أن يدين سكان هذه المدينة بكثير إلى ناغازاكي التي تلقت الضربة التي كانت موجهة لمدينتهم. وراء هذه الجريمة يختفي سبب مستهلك ومعروف يبرر به الرئيس ترومان توقيعه على أكبر جريمة عالمية موصوفة لم يحاسب إلى اليوم مرتكبوها ولو رمزياً: إجبار اليابان على قبول تنفيذ «إعلان بوتسدام» الذي فرض على اليابان الاستسلام دون قيد أو شرط، لكن رئيس الوزراء الياباني سوزوكي رفض وقتها الاستسلام المهين، وتجاهل المهلة التي حددها إعلان بوتسدام. وكما أي مسؤول في حرب طاحنة، لم يعترف بالإعلان على الرغم من أن اليابان كانت قد فتحت باباً للمفاوضات من أجل الاستسلام بشروط يابانية، منها استمرار الإمبراطور في الحكم. بموجب هذا الرفض، أصدر الرئيس الأمريكي هاري ترومان قراره المرعب الذي هز الإنسانية قاطبة، بضرب مدينتي هيروشيما بقنبلة نووية (اليورانيوم) أطلق عليها اسم «الولد الصغير»Little boy يوم 6 أوت 1945. وبعدها بثلاثة أيام؛ أي يوم 9 أغسطس 1945، تم تدمير مدينة ناغازاكي بقنبلة نووية (بلوتونيوم) حملت اسماً آخر هو: «الرجل البدين (Fat man) وفي 15 أوت 1945، أعلنت اليابان استسلامها، وأجبرت على توقيع وثيقة الاستسلام في 2 سبتمبر من السنة نفسها، وانتهت بذلك حرب المحيط الهادي. سؤال متأخر؟ هل كان من الضروري قصف اليابان بقنبلتين نوويتين؟ لماذا لم يكتفوا بواحدة ما دام القصد هو الردع وإجبار اليابان على قبول الاستسلام؟ من يعرف محتوى القنبلتين سيعرف أن وراء المقتلة تجريب الأسلحة ومدى خرابها: القنبلة الأولى بُنِيتْ على اليورانيوم، بينما الثانية على البلوتونيوم المدمر والحارق. لم تكن حياة البشر ذات أهمية كبيرة في ذلك كله أو استسلام اليابان فقط. عندما ننظر من حولنا، لا شيء يمنع سدنة الحروب اليوم من الإقدام على مغامرة تفني البشرية كلياً هذه المرة.