بما أن الكوميديا الجزائرية دمها ثقيل، ولا تُضحك الناس، فلحسن الحظ أن بعض السياسيين ينوبون عن الكوميديين، لاسيما منهم رؤساء أحزاب. يشيعون السخرية ويجعلون الآخرين يتجاوزون ضغط حياتهم اليومية. هؤلاء السياسيون نراهم يصلون على الرصيف، حال سماعهم الأذان، منتهزين وجود كاميرا أمامهم، لكننا لم نرهم يرأفون بفقير أو يحسنون إلى معوز. التدين لا يتكمل سوى في حضور الكاميرا، أو هذا ما يخطر في بال من يتابع خرجاتهم. رئيس حزب في الجزائر له قيمة كوميدية، لا ينكرها سوى جاحد، فهو يتكلم في أشياء لا يعرفها. يتلفظ بكلمات من غير أن يدرك معناها. لذلك يتعسر أن نصغي إليه بجدية. يحكي عن قضايا جيوسياسية سمع عنها في التلفزيون، فهو من الأوفياء لنشرة الأخبار، لا ينطق عن هوى، بل يدون ما جاء في كلام المذيع، ويجعل منه مادة في خطاباته التي يحتشد فيها أناس، ويخرجون منها دون أن يفهموا سوى البسملة والحمدلة. رئيس حزب يلتقط ما تود السلطة سماعه، وهذه السلطة تذيع صوتها في نشرة الأخبار. إذا كانت السلطة مستاءة، فسوف يلقي رئيس الحزب خطاباً مستاءً، وإن كانت منشرحة، فسوف يسير على نهجها.
رؤساء الأحزاب زبائن أوفياء أمام التلفزيون العمومي، لا يقايضونه بأي تلفزيون آخر في العالم، يتعلمون منه لغة تخدم مسعاهم في تكريس مكانتهم في الموالاة. هذا النموذج من رؤساء الأحزاب يتطابق حرفياً مع من يطلق عليهم «نقاد أدبيون» في الجزائر، يقولون كلاماً لا يفهمون شيئاً منه، ينشرون مقالات مرصعة بألفاظ سمعوا عنها فحسب، كما إنهم يدورون في فلك الموالاة، يكتبون ما يرضي السلطة، ويغضون عما يغضبها.. ينفذون تعليماتها من غير أن تأمرهم بفعل ذلك. يلغون كاتباً أو يتهجمون عليه، إذا كان مناوئاً للسلطة، ويتقربون إلى آخر ويتمسحون بنصوصه (بغض النظر عن قيمتها) بما أنه مقرب من السلطة. في السنوات الأخيرة، استقال الناقد من مهامه وصار خادماً، ينوع من مسالك الولاء، لعل السلطة ترضى عنه فينال منصباً أو شهادة شرفية في مؤتمر يخلو من الحضور.
بين الصدق والمنصب
معضلة الناقد، في الجزائر، ترتبط بمعضلة الجامعة، التي تقلصت حريتها، فدخلت حالة من الإغماء، يصعب عليها الاستفاقة منها. والناقد عجز عن الفصل بين الوظيفة والمهنة الأدبية. يتعامل مع النص بمنطق موظف في جامعة، متنازلا عن صفة الناقد. والموظف لا تغفل عيناه، بطبيعة الحال، عن القوانين. يدرك إن غامر بالحديث عن رواية صاحبها مصنف في خانة المغضوب عليهم، فسوف يفقد حظه في ترقية مهنية، لذلك يحافظ على توازنه ويزيد من حظوظه في ترقية بالكتابة، فقط ـ عن روايات كتابها من المقربين إلى السلطة، لذلك سوف نجد أن غالبية رسائل الدكتوراه، كل سنة، تدور حول أعمال كتاب موظفين في بلاط السلطة. ومن النادر أن يدخل في السياق كاتب نقدي، سبق له أن انتقد الحكومة، مهما كانت قيمة روايته. هكذا إذن بات الناقد موظفاً، فاقداً للحرية، يشتم كاتباً أو يدافع عن آخر، حسب علاقة الكاتب مع السلطة ونفوره منها. وبقي الرهان على النقاد الملتزمين، وعددهم قليل للغاية، الذين يتعاملون مع النص في قيمته الجمالية، بغض النظر عن صاحبه. إذا زرنا كل كليات الأدب، من شمال البلاد إلى جنوبها، من شرقها إلى غربها، وسألنا الأساتذة ـ النقاد، الذين يشتغلون فيها، عن رأيهم مثلاً في ألبير كامو، سوف تكون الإجابة واحدة، إنهم ينبذون كامو. والسبب ليس في قراءاتهم له، بل إنهم يعلمون سلفاً، أن كل طعن في ألبير كامو سوف يجعل المسؤولين ينظرون إليهم بعين الرضا. إذا سألناهم عن بوعلام صنصال، فسوف تكون الإجابة واحدة كذلك، أو عن كمال داود. الناقد الأدبي صار مثل رئيس حزب سياسي، يتكلم ويكتب مثل مذيع الأخبار في التلفزيون العمومي. يعلي من شأن الكتاب المقربين من دوائر الحكم ويسيء إلى الآخرين. مع أن هذا الناقد ينفي التهمة عن نفسه. حين يود هؤلاء النقاد التقليل من شأن كاتب، لا يقولون بشكل صريح أنهم يخافون مدحه كي لا يغضبوا المسؤولين، بل سوف يبتكرون حججاً. مثلا يقولون إن فلان يكتب لقارئ غير جزائري، فلان يكتب من منظور غربي، وغيرها من الحجج الواهية، التي يبررونها بنقد، لا يفهمه أحد غيرهم، في استعارة كلام وجمل صادفوه في أعمال نقاد غربيين. والغريب في الحالة الجزائرية، أن الناقد المحلي لا يذكر في مراجعه ناقداً محلياً آخر، إلا نادراً، بل يفضل أن يستعين بمراجع غربية، ظناً منهم أن ذكر أسماء مثل رولان بارت أو تودوروف أعلى شأنا من الاستعانة بمرجعية مخلوف عامر.
كليشيهات سلطوية
إذا كان رئيس الحزب السياسي يلوح براية التدين، من أجل كسب مريدين يصوتون عليه في انتخابات، فإن الناقد الأدبي، في الجزائر، يلوح براية القومية، في إقناع الناس بكلامه. لاسيما حين يتعلق الأمر بالكتابة عن حرب التحرير. هذا الناقد يريد أن يرى رواية تحكي عن فقير يرفع السلاح ضد المستعمر، ويتضايق من رواية يظهر فيها غني يقاوم الاحتلال، وسوف يزداد غضباً إن قرأ رواية تتحدث عن فرنسي يقاوم الاستعمار في الجزائر. ناقد يريد أن يقرأ رواية تحكي عن فظائع الاستعمار، وسوف يستاء إذا قرأ رواية تحكي الحقيقة، إن الناس كانوا يعيشون حياة هانئة، في ظل الاستعمار كذلك، يتجاور فيها مسلمون ويهود ومسيحيون. هكذا إذن يصير الناقد ناقلاً للخطاب الرسمي لا متبصراً، يفقد حريته من أجل خدمة السلطة، وهو يعلم أن عمله لا يتطابق مع مهام النقاد، بل الغاية منه البحث عن ترقية مهنية أو زيادة في الراتب، أو أن يحظى بدعوة في ملتقى أو مؤتمر، فيتفاخر بصورته أمام رفاقه على فيسبوك. في ظل هذا الوضع المتعثر الذي يحيا فيه النقد، لماذا لم يغير رؤساء الأحزاب من نشاطهم؟ فمواصفاتهم تتطابق مع مواصفات ناقد في جامعة الجزائر.
كاتب جزائري