نتائج كورونا… بلورة تناقضات

أود بهذا المقال الاستمرار في النهج نفسه الذي اتبعته في مقالي السابق لتحليل المعطيات الاجتماعية والتي هي في رأيي أساس تحديد نوعية ما يمكن أن ننتظره من نتائج لجائحة كورونا. فبعد العمل عن بعد، وتبدل محتمل في الطريقة التي تتبعها دول ومنظمات عدة بالتعامل مع المتغيرات البيئية كذلك ما يمكن أن تستفيد منه سياسيا ما يسمى بالحركات البديلة، نركز بهذا الجزء على ما يمكن أن يمس علاقة الدين بالعلم، ومن ناحية أخرى ما يمكن أن ننتظره من تبدلات على المستوى العالمي.

الدين والعلم

تُظهر جائحة كورونا، وضرورة التباعد الاجتماعي، مدى الهوة، بين الفكر الغيبي الديني، والفكر العلمي، فهذا الأخير، لا يوجد إلا في إطار العمل والفكر الإنساني. إغلاق المساجد، أو منع زيارة الأماكن المقدسة، كضرورة للحفاظ على حياة الناس، لم يتقبله جزء من المؤمنين التقليديين، والذين مثلاً في إيران، استمروا في الذهاب إلى الأضرحة رغم الحظر، إيماناً منهم أن أفضل وسيلة هي الصلاة والدعاء والابتهال.
هنا تظهر إمكانية أن يتبلور، لأول مرة، لهذه الشريحة من المجتمع، مفهوم الفصل بين العلم والدين. فهؤلاء الذين يجدون دائماً تفسيراً وحلولاً، بالكتب المقدسة لكل ظواهر الطبيعة، قد يقفون حائرين أمام جائحة كورونا، والتي لا تميز بين مؤمن وكافر، ولا بين غني وفقير، فلا يمكن اتهامها، كما نفعل عند الزلازل والفيضانات، مثلاً كونها عقاباً إلهياً، أو امتحاناً لقوة الإيمان.
يتم التمييز عندما نفهم أن العلم، هو البحث عن تفسير حقيقة كل ما يحيط بنا، المعرفة هو هذا الجزء من العلم، الذي تمت معرفته حقاً. فالمعرفة إذاً هي الهدف المرجو، والعلم هو الوسيلة لذلك، قد يجد أو لا يجد، ولكنه الوسيلة الوحيدة.
المعتقدات الدينية عكس ذلك هي خارج هذه المعادلة بين العلم والمعرفة، وتعني أن ما نؤمن به هو من داخلنا، وليس موجودا خارجنا، حتى يكون موضوعاً للعلم والمعرفة. المُعتقد الديني لا يمكن أن يكون موضوعاً علمياً، ووضعه كما يحاول الكثيرون من إعطاء الآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية الشريفة، أو النصوص التوراتية، والنصوص من الإنجيل، بُعداً علمياً، هو تجن على العلم، ولكن أيضاً على الدين، والذي لم يكن ليقبل أن يتحمل هذه المسؤولية. ودوره يقتصر على إعطاء النصيحة الحسنة وتبرير الإجراءات المبنية على العلم، كما رأينا مؤخراً، من دعم لكثير من شيوخ الدين. هي ظاهرة مشجعة، حتى يجد الدين مكانه الصحيح في المجتمع، وحتى أيضاً، أن تتمكن الأجيال الجديدة من دراسة العلوم بدون خلطها بالأطر الغيبية.

الدول التي أخطأت التعامل

هناك بعض الدول، والتي لم تستطع أن تتخذ الإجراءات اللازمة في وقتها المناسب، وتبنتها بشكل متأخر، وهو ما أدى، إلى ازدياد عدد الإصابات والموتى، نموذج ذلك هو إيران وإيطاليا.
في هذه الدول، توجد تراكمات اجتماعية سابقة، قد تتبلور بعد مرور هذه الجائحة.
في إيران أولاً، هناك حراك ديمقراطي، منذ ربيع 2009، يتكرر بشكل مستمر، بدون تغيير سياسي ملحوظ. هذه الجائحة، وفشل الدولة في مواجهتها، وتعتيمها على نتائجها الحقيقية، بدل مواجهتها، ستزيد في رأيي، بعد مرور العاصفة، من الغضب الشعبي، وتُخرج قطاعات من المجتمع الإيراني المؤيدة للسلطة، إلى وضع معاكس، خصوصاً أن الدولة الإيرانية، تصرف المليارات في حرب سوريا، وتمول حركات شيعية تابعة لها، بينما لا تجد الأموال، لتعويض المتضررين من المرض أو مساعدتهم.
في إيطاليا، الوضع مختلف، فالمصلحة الاقتصادية الآنية، أدت خصوصاً في شمال إيطاليا (مقاطعة لومبارديا)، المنطقة الصناعية الغنية، إلى رفض اتخاذ إجراءات وقائية، تحد من التبادل الاقتصادي، خصوصاً مع الصين، وهو على عكس ما فعلت ألمانيا، أدى إلى انتشار واسع للمرض في الشمال، ثم في كافة مناطق البلاد. تحاول الحكومة الإيطالية، إلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبي، معتمدة على قوة اليمين المتطرف أو على القدر، لكن الحقيقة، أن الرأي العام الإيطالي، بعد زوال الجائحة، سيعتبر الحكومة الحالية، مسؤولة بفشلها عن آلاف الموتى، وهو ما قد يؤدي إلى تغييرات سياسية مهمة، خصوصاً إذا تزايدت نسبة البطالة، كما هو متوقع في كل الدول المعنية.
مع انسحاب بريطانيا، بعد استفتاء 2016، من الاتحاد الأوروبي، وظهور الحركات الانعزالية، والدفع نحو تفكك البناء الأوروبي، كان هناك خلل بالتوازن، بين القوى الداعية لمزيد من التكامل السياسي، وأخرى تدعو إلى العكس، لصالح تلك الأخيرة، خصوصاً بعض دول أوروبا الشرقية وإيطاليا.
جائحة كورونا، قد تتمكن من إعادة التوازن لصالح القوة الداعمة لمزيد من التكامل، عكس ما يتوقعه الكثيرون، فالحقيقة تقول، أن دولة مثل إيطاليا، التي كانت الأكثر احتجاجاً على الاتحاد الأوروبي، لعدم تقديمه الدعم الكافي لها، هي أقرب الدول الأوروبية، قبل الجائحة، للابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، والدفع نحو سياسات انعزالية خصوصاً مع تطور اليمين المتطرف، برئاسة ماتيو سلفيني، وإمكانية استحواذه على السلطة، بعد أن كان مشاركاً فيها.
هذا يعني، أن اللوم الموجه لأوروبا، هو بالحقيقة استمرار لهذه السياسات، ومحاولة لتجيير الحدث، لصالح اليمين المتطرف، أكثر منه رغبة شعبية حقيقية للخروج من الاتحاد، بسبب الجائحة.

العلاقات الدولية

القطاع الصحي الأوروبي، على خلاف الزراعة مثلاً، كان وبشكل كامل، من اختصاص الدول نفسها. وضع سياسات صحية شاملة للاتحاد، يحتاج أولاً إلى تعميق التكامل الأوروبي، نحو المزيد من القوانين المشتركة. من المتوقع، أن تؤدي جائحة كورونا إلى توحد النظام الصحي الأوروبي وليس العكس، وإلى استعادة أوروبا لاستقلاليتها في مجال انتاج الدواء والمواد الطبية، بعد أن تخلت عنها لصالح الصين والهند.
على عكس البُعد التفاؤلي، الذي قد يجده بعض القراء بالسطور السابقة، فإن العلاقات الدولية للأسف، لن يحدث لها تغيير يُذكر، سبب ذلك، عدم وجود خصوصيات معينة لهذا المرض، لتخص منطقة معينة في العالم، ومن يتوقع تزايد النفوذ الصيني أو الأمريكي، هو واهم، فهاتان الدولتان، تتأثران اقتصاديا بالشكل نفسه من هذه الجائحة، ولن تبحث أي منها إلى الإضرار بالأخرى.
الوضع الفلسطيني مثلاً، لن يحدث له أي تغيير يُذكر، بسبب الجائحة، فلن يُرفع الحصار عن غزة، ولن تتوقف المقاومة الفلسطينية، ولا العنف الإسرائيلي، ولن يُطلق سراح الأسرى، ولن يُسمح للاجئين بالعودة. بشكل عام، لن تتغير السياسات الأمريكية تجاه هذه القضية، فلا يوجد حالياً أي مُعطى يمكن أن يتبلور بسبب هذه الجائحة نحو نتيجة إيجابية ما.
في المقابل، فإن الحركات الدافعة في اتجاه التغيير الديمقراطي بدول عديدة، قد تستفيد من هذه الجائحة، عن طريق إظهار فشل السلطة بالتعامل السليم. ولا أظن أن الديكتاتوريات، ستستفيد من هذا الوضع، لتمكين قبضتها على شعوبها في ظل فشلها المتزايد.

خلاصة

جائحة كورونا حدث مهم، لكن نتائجه على دول العالم، مرتبط أساساً، بالمشكلات التي تعاني منها هذه الدول، وسيؤدي هذا الوباء إلى بلورة ما كان أصلاً في طريق البلورة، ولن يؤدي إلى تغييرات خارج هذا الإطار.
النتيجة الوحيدة المباشرة الممكنة لمرض كورونا، هو تأثيره على إعادة توزيع العولمة الاقتصادية، فيما يخص إنتاج المواد الاستراتيجية للدول، مثل الدواء والغذاء والطاقة، حيث أن يكون هناك نوع من الاستقلال بهذه المجالات، في حالة الكوارث.
في الدول العربية، والتي هي وحتى اللحظة قليلة التأثر بالمرض، إن استمر الوضع على ما هو عليه، فلن يتم أي تغيير جذري سياسي بسببه. لكننا قد نلاحظ تغييرات اجتماعية في التعامل والعمل، والبدء في الفصل، بين ما هو غيبي وما هو علمي. واستمرار إنتشار حركات الربيع العربي. وحدها الدراسات الاجتماعية (الحريات العامة، التعليم، العمل، وضع المرأة… الخ)، والتي تكاد أن تكون معدومة في دولنا، من سيسمح لنا، ليس فقط بفهم حاضرنا، ولكن أيضاً، توقع ما قد تؤدي إليه الأحداث، طبيعية كانت أم من فعل الإنسان.

كاتب ومحلل سياسي فلسطيني مستقل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية