نتنياهو على جبل الشيخ: أوهام تغيير المنطقة واستدعاء سايكس بيكو كستار يخفي خيبته لرحيل الأسد

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر لم تتوقف تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وخاصة بنيامين نتنياهو عن إنشاء نظام جديد في المنطقة برعاية إسرائيلية. وهو نظام يحاول نتنياهو ومجموعته من المتطرفين فرضه بالقوة ومن خلال التصدي لمحور المقاومة بالمنطقة والذي تمثله إيران والجماعات الموالية لها. ويقولون إنهم نجحوا في ملاحقة إيران بسوريا وضرب حزب الله وقيادته مع أنهم لا يزالون في بحث مستمر عن “نصر شامل” في وسط أنقاض ودمار غزة والقتلى بالجملة فيها.
وقد كان لافتا استغلال نتنياهو التغيرات في سوريا عندما نسب سقوط الأسد لنفسه، مع أن النظام السوري كان النظام المفيد لإسرائيل، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية التركية حقان فيدان في لقاء بالدوحة أثناء مؤتمر عقد هذا الشهر هناك، حيث أكد أن “لم ترد إسرائيل ولم تكن راغبة بنهاية الأسد” وأن الأمريكيين “أخبرونا [تركيا] أن إسرائيل تريد الأسد” ولكن اللافت هو أن نتنياهو حاول استغلال سقوطه لإعلان النصر على إيران وبالضرورة حماس في غزة التي تخوض فيها إسرائيل أطول حروبها قاطبة.
ولم يفت هذا الموقف محرر صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية ألوف بن الذي نشر مقالا في صحيفة “الغارديان” (20/12/2024) قال فيه إن سوريا ظلت هوسا إسرائيليا، ولكنها منحت نتنياهو وبطريقة غير متوقعة صورة النصر الواضحة التي كان يريدها. وقال إن الحروب تظل عالقة بالذهن من خلالها الصور الرمزية والعثور على صورة انتصار كان دائما هدف دعاة الحروب الذين يريدون ترك بصماتهم على التاريخ.
ويضيف: “في 8 كانون الأول/ديسمبر وبعد قتال 14 أشهر بدون توقف، حصلت إسرائيل على صورة الانتصار التي انتظرتها، وهي تظهر ثلاثة جنود بزيهم العسكري الكامل يرفعون علم إسرائيل المزين بنجمة داوود على قمة جبل الذي تغطيه الغيوم. وتحتها تعليق وهو أن الجيش الإسرائيلي سيطر على أعلى نقطة في جبل الشيخ السوري المطلة على دمشق ومرتفعات الجولان”.
ولم تمض سوى ساعات على هروب الأسد من دمشق إلا وقامت إسرائيل بتحريك قواتها نحو المنطقة العازلة والمنزوعة السلاح وتمزيق اتفاقية عام 1974 واحتلال جبل الشيخ. ولم يواجه الجيش الإسرائيلي مقاومة تذكر للسيطرة على الجبل ورافقتها عمليات قصف مكثفة للأرصدة العسكرية السورية وإغراق الأسطول السوري في ميناء اللاذقية. وكانت عملية تدمير شاملة: مقاتلات حربية، مروحيات، بوارج حربية، صواريخ، مصانع ومخازن ذخيرة ودفاعات جوية ومراكز أبحاث ومختبرات”. ويقول بن إن نتنياهو لا يفوت أي “خبطة” إعلامية، حيث طار إلى الحدود في 8 كانون الأول/ ديسمبر وأعلن عن “انهيار” اتفاق فك الارتباط الموقع عام 1974 ولام الجنود السوريين الذين تركوا مواقعهم. وتزامنت الرحلة إلى الحدود مع ظهور له في اليوم التالي في قاعة المحكمة، ولهذا استبق صورته في المحكمة بصورة “بطولية” وتصريحات قال فيها: “قلت إننا سنغير شكل الشرق الأوسط ونحن نفعل هذا، ولم تعد سوريا نفس سوريا، لبنان لم يعد نفس لبنان، غزة لم تعد نفس غزة ورأس المحور، إيران لم تعد نفس إيران”.
وهو ما منح المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله على خامنئي القول إن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يقفان مع دولة لم يسمها (تركيا) هي المسؤولة عن انهيار نظام الأسد.
ولم تتوقف استعراضات نتنياهو، ففي يوم الثلاثاء أكمل رحلة الانتصار، بالزي العسكري حيث وقف على القمة المحتلة، وبعد أخذه يوم عطلة من المحكمة. وقال إن القمة ستظل بيد إسرائيل لحين التوصل إلى “ترتيب جديد تحدده إسرائيل”. وكان المعنى المخفي في كل هذا أن نتنياهو الرجل الأخير الذي لا يزال واقفا بعد كارثة هجوم حماس ومناورة أعدائه في الداخل والخارج والإشراف على عملية عسكرية ناجحة ضد حماس في غزة وحزب الله في لبنان.
ويعلق بن أن الوقوف على قمة جبل الشيخ لم يرحب به فقط أتباعه من اليمين المتطرف، بل وغنى لها المعلق في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان الذي لا يكن حبا لنتنياهو ولكنه قارن بين سيطرة إسرائيل السريعة على جبل الشيخ بانتصار إسرائيل على أعدائها العرب في مدى ستة أيام عام 1967. ولم يقف التغني بوقفة نتنياهو فوق جبل الشيخ، عند حد فريدمان، بل وكتب الجنرال المتقاعد وقائد الجيش الإسرائيلي السابق عاموس يادلين مقالا شاركه فيه أفنير غولوف ونشرته مجلة “فورين أفيرز”، حيث عبرا عن حالة النشوة داخل الغالبية اليهودية من تطور الأحداث، وقد تسرب هذا الشعور في داخل المجتمع الإسرائيلي منذ اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله في أيلول/سبتمبر، وما تبع ذلك من قبول الحزب اتفاق وقف إطلاق النار الذي فك فعليا ارتباط الحزب بالحرب في غزة. ويقول بن إن ما تبع من سقوط الأسد والمناطق الجديدة التي تم الإستيلاء عليها والمقاتلات المحترقة رفع معنويات الإسرائيلية بشكل كبير. ويقول بن إن سوريا احتلت مكانا في الأسطورة الإسرائيلية، كمنافس لا هوادة فيه، منذ عام 1948 وحتى الحروب والمواجهات التي لم تتوقف على مدى السنين (على الرغم من أنها كانت لفترة من الوقت شريك سلام مرغوب فيه). فقد سعى والد بشار، حافظ الأسد، إلى “التكافؤ الاستراتيجي” مع الردع النووي الإسرائيلي من خلال الحصول على الأسلحة الكيميائية ورفع ابنه الرهان وبنى مفاعلا نوويا سرا بمساعدة كوريا الشمالية، والذي تم الكشف عنه وتدميره من قبل إسرائيل في عام 2007. وتفاوض كلاهما على صفقة الأرض مقابل السلام حول مرتفعات الجولان التي لم تنجح. وعندما انهارت سوريا تحت وطأة الربيع العربي، شنت إسرائيل حملة جوية ضد الوجود العسكري الإيراني هناك، لكن حدود الجولان ظلت هادئة ومستقرة، حتى بعد اعتراف الرئيس دونالد ترامب بضم إسرائيل لها عام 2019. والآن عاد ترامب منتقما، وعليه فعدم احترام القانون الدولي والاستيلاء على الأراضي بالقوة لم يعد مشكلة لإسرائيل.
وقد بالغ نتنياهو في حديثه عما حدث في سوريا وإعادة رسمه الحدود بالقوة عندما قارب ما عملته إسرائيل بما فعلته اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916 حيث تقاسمت بريطانيا وفرنسا إرث الدول العثمانية في المشرق العربي. ولم يفوت المعلقون الإسرائيليين تصريحات نتنياهو الانتصارية، حيث أشاروا إلى إمكانيات جديدة فتحها سقوط الأسد. وهي تقسيم سوريا على غرار ما فعلته اتفاقيات سايكس – بيكو لرسم حدود المشرق العربي. وفي الحالة السورية هناك حديث عن تغيير خريطة سوريا بدعم الأكراد في شمال- شرق سوريا والدروز في الجنوب. وفي الوقت الحالي يحاول الجنود الإسرائيليون الذين نشرهم نتنياهو التعامل مع القرويين لمصادرة الأسلحة، والبحث عن صور للأسد والاحتفاظ بها كغنيمة وتذكار.
والمفارقة كما يقول بن أن إسرائيل دعمت في العقد الماضي جماعات شاركت في الثورة السورية والتي أصبحت جزءا من تحالف تقوده هيئة تحرير الشام وطردت الأسد من دمشق. ولم يصدر عن قائد التحالف أحمد الشرع إلا تصريحات قليلة حول استيلاء إسرائيل على جبل الشيخ، ولكن المتطرفين في إسرائيل وكعادتهم حاولوا التركيز على ماضيه في القاعدة. وقال وزير الدفاع يسرائيل كاتز أمام لجنة في الكنيست: “علينا منع نمو نظام إجرامي بأيديولوجية نازية على عتبات بيتنا. الأسد، الجولاني، اردوغان هم نفس الشيء”. وبعبارات أخرى يقوم نتنياهو وحلفاؤه السياسيون بالترويج لأيديولوجية إسرائيل الكبرى، ولن ينزلوا والحالة هذه عن قمة جبل الشيخ. لكن صورة النصر التي روجها نتنياهو لنفسه ليست كما تبدو. وكما قالت المنظرة الأمريكية سوزان سونتاغ في كتابها الأخير “قراءة ألم الآخرين”: “عندما تصور فإنك تؤطر وعندما تؤطر تستثني”.
ومن هنا فسحرية لحظة إسرائيل في استعادة قمة جبل الشيخ كما استعادت أمريكا قمة إيو جيما في الحرب العالمية الثانية كامنة في عقمها، فعلى خلاف اللحظة الأمريكية لم يكن هناك قتال في سوريا ولا قتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي ولم يكن هناك قتلى بالجملة أو جوع على الجانب الآخر، كما يحدث في غزة والتي ردت فيها إسرائيل بشراسة على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر.
خطة إسرائيلية
وفي هذا السياق كشف موقع “ميدل إيست آي” (20/12/2024) في تقرير لرئيس تحريره ديفيد هيرست قال فيه إن هروب الرئيس الأسد أفشل خططا إسرائيلية لبقائه في الحكم تحت الوصاية الإماراتية وتقوية العلاقات مع الأكراد السوريين في شمال- شرق البلاد والدروز في الجنوب، ودمشق تحت سيطرة الأسد، مما يعني تقسيم البلاد فعليا إلى ثلاثة أقسام. وستعمل هذه الخطة على الحد من تأثير تركيا على إدلب شمال- غرب سوريا ومعقل هيئة تحرير الشام والجماعات السورية الأخرى التي تدعمها أنقرة والتي قادت الهجوم الخاطف الذي أنهى حكم 54 عاما من عائلة الأسد على سوريا. وأشار الكاتب أن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ألمح في خطاب له الشهر الماضي عن حاجة إسرائيل للتواصل مع الأكراد والدروز في سوريا ولبنان، وقال: “علينا النظر إلى التطورات في هذا السياق وفهم أنه في منطقة سنبقى فيها دائما أقلية نستطيع العثور على حلفاء طبيعيين مع الأقليات الأخرى”. ولكن الخطة تجاوزتها الأحداث حيث انهارت القوى المؤيدة للأسد في حماة وحمص وفتحت الطريق أمام الثوار إلى دمشق.
وقال هيرست إنه في الوقت الذي كانت فيه هيئة تحرير الشام تتقدم نحو العاصمة، حاول سفيرا الإمارات والأردن وقف زخم مقاتلي المعارضة نحو دمشق. وشجع الأردن الجيش السوري الحر والجماعات المتحالفة معه في الجنوب للزحف نحو دمشق وقبل وصول هيئة تحرير الشام. ورتب السفيران، قبل وصول أبو محمد الجولاني، أحمد الشرع إلى دمشق لنقل رئيس الوزراء السوري السابق محمد غازي الجلالي إلى فندق فور سيزون بحراسة من مقاتلي الجيش السوري الحر، حيث من المقرر أن يسلم مؤسسات الدولة رسميا إلى الجماعات المسلحة من الجنوب. وتم تصوير جلالي وهو يرافقه إلى الفندق جنود من منطقة حوران في جنوب سوريا ينتمون إلى الفيلق الخامس، وهي قوة عسكرية مكونة من متمردين سابقين تصالحوا سابقا مع الحكومة السورية. وقال المصدر إن جلالي توقف واتصل مع الجولاني الذي أخبره، لا تفعل، واستمع الجلالي للنصيحة.
واكتشفت إسرائيل أنها لا تستطيع وقف تقدم هيئة تحرير الشام ولهذا بدأت بعملية قصف للمراكز والأرصدة العسكرية السورية وحركت قواتها إلى جبل الشيخ أعلى جبل في سوريا على الحدود مع لبنان والجولان المحتل. وقال المصدر: “كانت هذه الأسلحة آمنة في يد الأسد، ولهذه الدرجة استثمرت ببقائه في السلطة ولكنها ليست آمنة بيد المتمردين”. وقال هيرست إن الإمارات عبرت مع الأردن عن خوف من سيطرة حكومة إسلامية في دمشق، مع أن قوى المعارضة بزعامة الشرع وعدت بحكومة ممثلة. فمنذ الربيع العربي، عام 2011 كانت الإمارات في مقدمة القوى المعارضة للديمقراطية والثورات المضادة في مصر وليبيا وتونس واليمن. ولن يمضي وقت طويل قبل ان يواجه قادة سوريا سرقة إسرائيل للأراضي السورية وبالقوة. فعائلة الشرع كانت واحدة من 130.000 سوري هربوا من الجولان بعد احتلالها عام 1967 وقد زاد عددهم اليوم إلى 800.000 شخص. وحسب المصدر “يريد نتنياهو منا تصديق فكرة أنه كسر سلسلة محور المقاومة الإيراني، والحقيقة هي أن محورا جديدا يتشكل وبشكل سريع ويتكون من تركيا والقيادة الإسلامية السنية” و”سيعمق هذا من التحدي لإسرائيل التي ستدخل في مواجهة مفتوحة مع العالم السني”. وفي الوقت الذي أكدت فيه الإمارات ببيان لها على وحدة وأراضي سوريا قالت إنها تراقب الوضع عن كثب هناك. وقال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إن ما يجري في سوريا هو لحظة تاريخية تستدعي الوقوف مع الشعب السوري والحفاظ على وحدته واستقراره.

ديناميات جديدة

وعموما لم تخل التعليقات منذ نهاية حكم الأسد وعائلته على سوريا من حديث مستمر عن الرابحين والخاسرين من سقوطها. فالخاسرون هم الروس وإيران الذين يلعقون جراحهم، والرابحون هم تركيا وإسرائيل. وحذر جدعون راتشمان من صحيفة “فايننشال تايمز” (16/12/2024) من اصطدام المصالح التركية والإسرائيلية وخاصة أن السعودية ودول الخليج الأخرى لديها مصالح في سوريا. وبالمقابل ورغم نبرة سيادة النظام الإسرائيلي على المنطقة إلا أن يالدين دعا وغولوف في مقالة بـ “فورين أفيرز” (17/12/2024) إلى بذل جهد دبلوماسي لربط إسرائيل بشكل أكبر بالملكيات العربية في الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، وهو جهد معقد، كما يقولان، يتطلب شراكة أمريكية وتنازلات إسرائيلية في نهاية المطاف لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الفعلي. لكن هذا يتطلب أيضا من نتنياهو تحدي أعضاء اليمين المتطرف الرئيسيين في ائتلافه الحاكم، الذين يتصورون أن إسرائيل ستضم قريبا أجزاء من الضفة الغربية وحتى إنشاء مستوطنات في غزة. وكتبا: “على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، أعادت إسرائيل تأكيد قدرتها على تشكيل السياسة والأمن في الشرق الأوسط. ولكن بدون قيادة شجاعة، قد تفلت فرصة إسرائيل. إن تطلعات الأعضاء المتطرفين في ائتلاف نتنياهو لضم أجزاء من غزة والضفة الغربية، أو فرض الحكم العسكري في غزة، أو متابعة أجندة محلية استقطابية تضعف المؤسسات الديمقراطية من شأنها أن تعيق هذا التقدم بشدة”.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية