لسان حال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو هو الإعدام ومزيد من الإعدام وكأن عقدة الهولوكوست حلّت به، وصارت أفضل سياسة يواجه بها ليس الفلسطينيين الذين لا يعترف بهم فحسب، بل يواجه بها كل معارضة داخلية في صلب النظام السياسي الإسرائيلي أيضا، من ذلك حزب العمّال وكل من يتحلّى ولو بالنزر القليل من الإنسانية والأخلاق المهنية.
شكل نتنياهو حكومته الحالية بداية من هذه السنة على خلفية شلّ السلطة القضائية، وإعطاء مزيد من الصلاحيات والمسؤوليات والامتيازات للسلطة التنفيذية، لأن في عقل رئيس الوزراء أن التنفيذ الفوري والارتجالي هو أفضل سبيل لإحكام وضعية مثل التي تمر بها إسرائيل، من استعصاء في تشكيل حكومة منذ سنوات طويلة، قياسا على الزمن الفائق الجديد على كل العالم، إلا على إسرائيل التي ما تزال تحسب بالزمن الاستعماري البائد.
المواكب التي نزلت الشوارع في أكبر العواصم المتروبولية، للتنديد بحرب الإبادة التي ترتكبها عصابة نتنياهو، الشاهد القوي على الوداع الأخير بين الغرب وإسرائيل
الحكومة التي شكلها نتنياهو مطلع هذه السنة هي عصابة من غلاة الصهاينة وعناصر من أقصى اليمين المتطرف، متأهبة إلى البحث عمن تعدمهم كأفضل سبيل إلى تسوية الطريق إلى ما بعده.. وكانت النتيجة الهائلة الإنزال الكبير الذي قامت به المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر الفائت، على غلاف قطاع غزة، أي حدوث ما لم يكن في الحسبان، لأن تقدير العقل الناقص في حكومة نتنياهو هو أنهم أعدموا الفلسطينيين، ولم يعودوا في عداد الأحياء المرشحين للحق في الدولة الفلسطينية ولا الحق في المواطنة الإسرائيلية، بل الإعدام والطرد والنفي، لأن هذا ما ينُصّ عليه قانون «إسرائيل دولة/ أمة للشعب اليهودي» وقد تمت المصادقة عليه في يوليو2018… وكان المشهد حادثة الزلزال الكبير الذي اضطلعت به حركة المقاومة الفلسطينية بعد نصف قرن من حرب أكتوبر 1973. وعليه، أو هكذا يجب أن نحلل الوضع في غزة الجريحة والشهيدة، أن ما يجري فيها له مقدمات مهدت لها سياسة عصابة شكلها عرّابها الفاسد الكبير من أقصى اليمين.. مجرمين من آخر بقايا النزعة الصهيونية في غير عصر الإمبريالية والاستعمار. فكانت سياسة العصابة الرعونة والطيش.. رائدها الأول والأخير عدم النظر إلى الإنسان الفلسطيني إلا على سبيل إعدامه في وقت السلم، والأفضل في وقت الحرب حتى تسهل تصفيته بالجملة على ما يجري الآن في غزة، حيث الشهداء أحياء. فواقعة يوم 7 أكتوبر الماضي هي من متلازمة السياسة الصهيونية التي دخل بها بنيامين نتنياهوالحكم وأرادها ليس حلا للقضية الفلسطينية بإنهائها فحسب، بل حلا لمشكلته الكبرى مع مؤسسة القضاء ومفهوم العدالة ذاته. ما اجترحه نتنياهو، بداية من هذه السنة كعرّاب عصابة اليمين المتطرف وحزبه الباغي، هو فعل سياسي بقوة الحرب التي لم يشاهدها كحقيقة إلا في إنزال المقاومة 7 أكتوبر الأخير، ومن ثم، وفور سماعه بذلك اليوم المشؤوم في حياته تَحَسَّس مُسَدَّسه وأعلن الحرب على حركة المقاومة الفلسطينية، التي اختصرها في منظمة حماس. وقد تعمّد إعلان الحرب على منظمة حماس، أو ما يوهم به العالم منظمة «حماس الإرهابية» حتى يجني نتائج الحرب، وليس مهمة إعادة استتباب الأمن في قطاع غزة، على أساس أنه سجن كبير مفتوح على السماء، وأنه لا يمكن شن الحرب عليه، لأن قاطنيه في حُكْم السجناء لا يمكن الاعتداء عليهم إلا في عرف حكومة نتنياهو المجرمة جدّا، لأنه أراد أيضا أن يباغت السلطة القضائية وأجهزة العدالة ببدعة جديدة وهي إمكانية محاربة السجناء، وإلحاق الأذى الغليظ بهم.. وهو منتهى الجبن الذي لا يحد ولا يوصف.
الحياة السياسية في إسرائيل وصلت مع نتنياهو إلى آخر الرمق، لأنه يأتي السياسة ويتعاطاها كجملة من الإجراءات التي تعفيه في المحاكمة الوشيكة، وكلّما اقترب الموعد زادت تصرفاته طيشا وعجرفة، وزاد على إثرها منسوب الاحتجاج والعصيان والتمرد على ما يقوم به في الصالح كما في الطالح، فقد صار شخصية مرفوضة في كل العالم، وعناده في البقاء هو دائما من أجل الإفلات من المحاكمة التي تسوقه إلى أروقة القضاء، ثم إلى أقبية السجون، فهو فعلا مجرم بكل معاني الكلمة وليس بمعنى ما فقط، فلأن نظرية الدولة في تاريخنا المعاصرة قائمة على فصل بين السلطات واحترام المجالات، إلا الدولة العبرية في آخر تاريخها تريد بدعة لا قبل للعالم بها وهي على ما يَنْحُو ويعربد بها نتنياهو بإلحاق السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية التي هو زعيمها الحصري. والحقيقة أن الإمعان في الإعدام والبحث عمن يقف في وجهه، هو الذي حدا به إلى ضرب القضاء والعدالة وإلحاقها بالسياسة، وهو الذي يعطينا، في آخر التحليل، المشهد الواضح كيف وصلت الأمور إلى العدوان الغاشم على السجن الكبير غزة.
عندما يعتبر نتنياهو حركة حماس منظمة إرهابية، فعلى سبيل الافتراض الإعلامي وليس على سبيل الحقيقة، وعلى ما هي عليه فعلا حركة حماس، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة بأنها لم تأت من فراغ، وأن سياقها التاريخي والشرعي متوفر في حياة الفلسطينيين. اعتبار حركة حماس تنظيما إرهابيا هو على سبيل الافتراض الإعلامي لا غير، ليستقيم عدم التعامل معها كقوة سياسية حقيقية تضايق إسرائيل كدولة ومؤسسات، تصعب عليها حيازة الشرعية وحل المسألة الاستعمارية دون الممثلين الحقيقيين للشعب الفلسطيني، فصفة الإرهاب تمت بمرسوم وقرار لمن له الحق في احتكار خاصية الإرهاب واعتمادها كشرعية وجود لإقليم بلا حدود. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستبطن «مادة الإرهاب» وتتغذى منه وتمنحه لمن توسمت فيهم القدرة على إزالتهم وتصفيتهم.. لكن هيهات، لأن كل دول العالم التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وميثاق الأمم المتحدة، كانت توصف حركاتها الوطنية والاستقلالية بالتنظيمات الإرهابية زمن الاستعمار والإمبريالية، ومن رحم هذه الحركات تأسست دول وأمم ومؤسسات دولية حكومية وغير حكومية.. إلا إسرائيل الشاذ الأعظم الذي يتعاطف معها الغرب لأنه المسؤول البعيد القريب عما يجري اليوم في غزة بمعاول اليمين المتطرف في آخر حياته السياسية.. والواقع أن هذا التأييد لا يمكن فصله عن العزاء والترحم والوداع الأخير بين الغرب وإسرائيل.. لأن الشاهد القوي على هذا هو المواكب الهائلة التي نزلت الشوارع في أكبر العواصم المتروبولية، من أجل التنديد بحرب الإبادة التي ترتكبها عصابة نتنياهو. تلك القوافل من شعوب العالم هي بمثابة جنائز الوداع الأخير لبقايا الاستعمار والإمبريالية في غير عصرهما، وأن «دولة اليهود» خديعة كبرى تكفلت بها إسرائيل كمشروع استعماري فائق، ولأنها الكيان الوحيد في العالم الذي لا يستحي ولا يعرف أخلاقا ولا قانونا لا «وطنيا» ولا دوليا على ما دلت عليه التجربة السياسية الدولية، منذ أن زُرَعت كنبات غير شرعي في المنطقة العربية، ولم تكف عن تسَلّق الأشجار الأصيلة بقصد خنقها وإعدامها.
كاتب وأكاديمي جزائري