نجوى بركات بين «مستر نون» والواقع

حجم الخط
0

إن النشاط الدائم للنسيان في حياتنا يضفي عليها طابعاً غير حقيقي ضبابي، ولكن ثمة خيانة في عالمنا الواقعي اللاإنساني، إذا أصبح هذا النشاط ديدنه، فعندما تتقاطر أمامنا رواياتٌ متعددة من واقعٍ مثخنٍ بالأبطال، فإنهم يستثيرون فضولنا، وينشّطون ذاكرتنا؛ لأنهم بالمطلق يمثلون حالةً إنسانيةً عامةً، يقف النسيان إزاءها صاغراً، والكاتبة نجوى بركات، في روايتها «مستر نون»، حاولت أن تجد الرابط بين أناها الحاضرة، وأناها القديمة، والذي شكل لغز هويتها؛ حاكت خيوطه في الرواية من خلال تقاطر ذكريات أنا الماضي، وأحداث أنا الحاضر؛ لتكونا شخصية (مستر نون)، الذي ينتمي لعالمٍ واقعي تخييلي راسخٍ في تفاصيل الرواية، ودقائق الوصف فيها، فكل كلمةٍ وكل جملةٍ في الرواية تستحق ألا تُنسى، وأن تُفهم؛ لتصل إلى الغاية؛ لأن أدنى تفصيلٍ مُهم في تشريح الواقع السيكولوجي للشخصيات وأزمنتها، وانطلاقاً من كون الرواية تمثل شكلاً فنياً بكل أبعادها ومنعطفاتها، فقد استطاعت الكاتبة تقديم مؤشرٍ جوهري لحقيقةٍ: وهي أن يكون المرء حياً، وأن يكون إنسانياً في الوقت ذاته رغم مرارة الواقع، واضطرابات النفس، فقدمت نفسها على أنها شريحةٌ من الحياة اقتطعت منها سيرة (الشخصية البطل)، الذي ينتمي إلى عالمنا، ولهذا أعطت الكاتبة انطباعاً؛ بأنها جزءٌ منه؛ بإحالتها ضمنياً أو صراحةً أموراً مشتركةً بينها وبين حياة (مستر نون)، مُحدثةً بذلك اقتباساً غير مُعلنٍ من حياتها، متحدةً معه/ها، فالبطل/ة كاتبٌ؛ طفولته كانت زمن الحرب اللبنانية، وكان يعلم الشباب الناشئ الكتابة في ورشة الكتابة الإبداعية، وتوقف عن الكتابة خمسة عشر عاماً، وهي أشياءٌ مشتركةٌ بينهما، ولكن مسافةً ما، كانت تفرضها بركات بين الشخصية، وأزمنتها الواقعية، التي كانت أحد الأفخاخ السردية والزمنية، نُصبت في الرواية عمداً؛ لترفع درجة التأثر والغموض لدى القارئ؛ من خلال تقديمها (الشخصية البطل) بأبعادها الأكثر اعتيادية (النوم، الاستيقاظ، الأكل، المدرسة، الكتابة، تعليم الكتابة….)، وتقديمها لها تارةً أخرى ببعدٍ نفسي في زمنٍ مختلفٍ عن سابقه، فالشاغل لديها؛ تفكيك الشخصية لتحديد حيزها النفسي، ومدى تأثرها بالواقع، وتأثيره فيها؛ لذلك نرى أنفسنا أمام مشهديةٍ واقعيةٍ؛ فيها جمعٌ من الأفراد: هم صورٌ من المجتمع الذي قدموا منه، ولكن في النهاية هذا الجمع ما هو إلا واقعٌ كلي متراص متجردٌ من الإنسانية يعاني الفقر، والتلوث، والانهيار المجتمعي، والقمع والاستبداد السياسي لحكوماتٍ شموليةٍ، فقدمت لنا الكاتبة صورةً لشخصية (مريم) الهاربة من براميلَ تُقذف من سماء حلب؛ لتقع على الناس، وتفتك بهم، وكان لعائلتها النصيب الأوفر منها، والصورة الأخرى كانت شخصية (وداد) الممرضة التي كانت تعمل لدى والده الطبيب، وهي الهاربة أيضاً من مجازر نكبة (48) في فلسطين؛ لتعيش مجدداً مجازر الحرب اللبنانية، وصورة (سائد) الأخ الأكبر لمستر نون وجشعه وتعجرفه، وصورة (ثريا)، والدته التي لم تكن يوماً أماً لأحد، إلا لولدها الغالي سائد، وصورة (ندى) الحبيبة التي هجرت مستر نون، و(شايغا)، ومس (زهرة). لتكون مركزية الرواية في زمانها، ومكانها لبنان، وحربه الأهلية وحاضره؛ متمثلةً بشخصية (مستر نون) التي أحاطت بها بركات إحاطةً تامة؛ من خلال الصور السابقة، ودخلت في أزمنة حيواتها منفتحةً عليها؛ بعبورها أنفاق الزمن الروائي، بدون وجلٍ من تأثيرهذا الانفتاح على السرد والشخصيات، ولكن هذا العبور كان للكشف عن حقيقة الماضي والحاضر المتلبسين بفظاعةٍ تفوق التصور؛ من فسادٍ واستبدادٍ وقتلٍ وجشعٍ، وكأن زمن الكتـــــابة عن الماضــــي والحاضر هو ذاته، فالشخصية الأساسية (مستر نون)، جعل بطل روايته (لقمان)، يعبر الأنساق الزمنية بسردٍ استذكاري؛ للتنقل بين الماضي والحاضر أحياناً، والجمود في الزمن أحياناً أخرى، وهذا ما أضفى على شخصيتي (مستر نون، لقمان) هالةً من الاضطراب العابر بين الوعي واللاوعي؛ حاولت الكاتبة بواسطته استحواذ انتباه القارئ استحواذاً لذيذاً، حطمت من خلاله النمط الإطاري المعهود، لأي إحساسٍ بالتنامي السردي وسحره، فلم تنشغل بالسرد، بل جعلت الأمر شديد الوضوح بشأن مكان الرواية، وواقعها ومجتمعها البعيد غاية البعد عن كونه المكان الذي يوفر الحياة الكريمة لأبنائه؛ بقيمه وأبعاده الإنسانية، ونظامه الحر الديمقراطي.

الشكل الجوهري في الاستحواذ في الرواية هو انشغال بركات بالشخصية، وواقعها السيكولوجي، فشخصية (لقمان) المتعددة هي شخصيةٌ واحدةٌ، ولكن الكاتبة قدمتها بأزمنةٍ مختلفةٍ

إن الشكل الجوهري في الاستحواذ في الرواية هو انشغال بركات بالشخصية، وواقعها السيكولوجي، فشخصية (لقمان) المتعددة هي شخصيةٌ واحدةٌ، ولكن الكاتبة قدمتها بأزمنةٍ مختلفةٍ؛ لأنه لم يكن لديها فرقٌ في أن تتوسل وسائل خفيةً في التعبيرعن فكرتها، أو أن تواجهها بشكلٍ مباشرٍ، تاركةً مستر نون يسردعنها، فتارة هي ذكرياتٌ لاسمٍ يتذكره مستر نون، وتارةً هي اسمٌ لبطل روايته، وفي النهاية هي اسم الرجل الذي التقاه في محل إنترنت في برج حمود،
«لقمان الأول: هو ذاك الذي سمعت اسمه حين كنت صغيراً، وكان أبي يروي ما جرى له في تلك الليلة من يناير/كانون الثاني 1976، استوطنني اسم القاتل سراً قبل أن يرجع إليّ شخصية روائية إثر انتهاء الحرب. ذاك، أي لقمان الثاني: كان بطل روايتي، ظننت أنني اخترعته، ولم أدرِ أنه خرج إليّ من غياهب الذاكرة واللاوعي، أما لقمان الثالث، فهو الذي التقيته أخيراً متقاعداً من القتال في محل إنترنت في برج حمود».
لقد شكلت الرواية نظاماً معقداً، عندما غاصت الكاتبة في أعماق شخصياتها للوصول إلى عناصرها الأساسية، وإبراز أجهزتها، ثم قامت باختيار التفاصيل بناءً على تصور دوافعها؛ لذلك أخضعتها لاختباراتٍ أخلاقيةٍ حسب ممكنات كل شخصيةٍ وأزمنة تواجدها، فمثلاً طلب حقن الأطفال بمخدرٍ بأمرٍ من الطبيب، والد مستر نون، خوفاً عليهم من الذبح فترة الحرب اللبنانية، ثم حقن الممرضة وداد لهم، ولنفسها السم بدلاً من المخدر؛ هو اختبارٌ أخلاقي، ثم إخضاع شخصية مريم للاختبار نفسه، عندما انتحرت؛ لأن أرواح أسرتها التي ماتت تحت القصف في حلب معلقةً في السماء تنتظرها، ثم بيع المنزل من قبل سائد أخ مستر نون، ليكون ثمنه علاجاً له، وعدم اهتمامه بأخيه، ولا حتى زيارته والاطمئنان عليه، أما الاختبار الأخلاقي لمستر نون، فهو تعلقه بشايغا الفتاة من النيبال التي كانت تعمل في ملهىً ليلي، وإنقاذها من (مستر جو) القواد.
لم يكن يعلم حينها؛ بأنه حكم عليها بالموت عندما رُميت من شرفة منزله أمام عينيه، هذا الاختبارعاد؛ ليكرر مشاهد الموت في ذاكرته؛ من انتحار والده بعد حادثة الأطفال، وانتحار مريم، وقتل شايغا؛ لوصول خبر وفاة ثريا والدته ورفضه حضور جنازتها، وكأن بركات أرادت بإحداث تلك الاختبارات، إعادة مستر نون إلى الفندق (المصح)؛ لتحميه من نفسه ومن الآخرين، كل الاختبارات الآنفة شكلت رغباتٍ داخليةً، وتكهناتٍ لدى القراء لنهاياتٍ مختلفةٍ للشخصيات، غير التي قدمتها الكاتبة، فقد استطاعت بذلك مشاركتنا في عملها الروائي بكل ذكاءٍ.
أعطت بركات الشخصية البطل دفة الإبحارفي السرد، وملكته عناصره؛ بكونها قدمته كاتباً، فوجد القارىء نفسه أمام نظامين سرديين متداخلين؛ لذلك نراها تعتمد على الشخصية، وترافق تنقلاتها عبر أزمنةٍ مختلفةٍ في الرواية، وتفضلها على التطور السردي؛ لتستطيع التمييز بين الذكريات والهلاوس لمسترنون؛ لذلك كانت الرواية مقاومةً للتنظيم السردي بغية الوصول للهدف، فعند مشهد قتل مستر نون لبطل روايته لقمان، تتوقف الرواية عن السرد الخاص بمستر نون، كما لو تم تجميد المشهد السردي في تلك اللحظة القاتلة، التي حلت عقدة السردين المتداخلين بموت أحدهما، هو تجميدٌ مبررٌ ومفهومٌ؛ إذا ما اعتبرنا أن القاتل هو السارد المشوش العقل، الذي قدم سرداً مباشراً لكل ذكرياته واضطراباته النفسية.
بعد مشهد القتل تتدخل نجوى بركات الكاتبة بسردها المتناثر بين صفحات الرواية؛ لنقرأ في نهاية الرواية تقريراً مقدماً من السيد (أندريه) الطبيب المسؤول عن علاج مستر نون جاء فيه: أن مستر نون، هو كاتبةٌ لديها اضطراب هويةٍ، وأنها وُجدت في غرفتها سابحةً بدمائها، غارزةً أقلام رصاصٍ جديدةً في رأس معدتها. إن المتتبع لتداخلات الأزمنة مع السرد والشخصيات في الرواية، يعلم علم اليقين أن شخصية مستر نون، كما عُرضت في الرواية لا تعاني أي اضطرابٍ نفسي، وهنا تكمن الوظيفة التأثيرية للنص على القراء، بأن تجعلنا نتيقن ذلك، على الرغم من تداخل الواقعي والتخييلي (نجوى بركات الكاتبة، شخصية مسترنون الكاتب/ة )، وهذا يحملنا على قول إن بركات لم تكن تريد من الأثر الواقعي لروايتها أن تتباهى بالتفعيل المعرفي للرواية، بل كانت تريد إبراز الواقعي فيها، والذي هو في الأساس؛ ما كان مُخبأً في دواخلنا من بؤسٍ وخيباتٍ متناسلةٍ؛ إبرازاً يثبت المعرفة المقدمة في النص الروائي ضمن زمنٍ يسير نحو مستقبلٍ مُحملٍ بالمعاني القيمة العائدة بالفائدة على الواقع المتسم بالجمود، والذي أرادت الكاتبة رمي حجرٍ في مائه الراكد، وإن كان على حساب وجودها في الرواية؛ كاتبةً كانت أو كاتباً.

٭ كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية