نجيب المانع… الترجمة وعبور الزمان الأوسع

حجم الخط
2

ولد نجيب عبد الرحمن المانع في مدينة الزبير سنة 1926 هذه المدينة المطلة على صحراء مترامية الأطراف، تتجه نحو المملكة العربية السعودية والكويت، فضلا عن أنها تضم معلما تراثيا وأعني به مقبرة الحسن البصري التابعي الجليل.
منذ نعومة أظفاره شغف نجيب المانع بالقراءة والكتاب، وإذ كانت توجهاته الأولى دينية، فإنه ما عتم أن مال نحو الآداب الأوروبية، ولعل الكتب التي كان يبيعها الضباط والجنود البريطانيون، أيام الحرب العالمية الثانية، والذين كانوا يعسكرون في قاعدة الشعيبة، بعد أن فرغوا من قراءتها، فضلا عن التي تركوها بعد الانسحاب منها نهاية الحرب، والأسطوانات الكلاسيكية لأساطين الموسيقى الغربية: شوبان، موتسارت، فاكنر، بتهوفن، غيرت ذوقه نحو الثقافة الغربية، ولو كان نجيب الذي تخرج في ثانوية البصرة في العشار، قد انتظم بالدرس في كلية الآداب، شأنه شأن لداته وأترابه: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وعبد الرزاق عبد الواحد، في قسم اللغة العربية، أو قسم اللغة الإنكليزية لصقلت دراسته موهبته وإمكاناته وبلورتهما، لكنه ويا للأسف يذهب لدراسة الحقوق ونصوص القوانين الجامدة، فأثر ذلك في مسيرته الثقافية.
حذقه للغتين الإنكليزية والفرنسية، جعله يقرأ للكتاب الفرنسيين، الذي يرى أن الأعمال المثيرة حقا، هي أعمال تصنع في فرنسا، إنها أيضا بؤرة الكثير مما يدخل في نطاق الإبداع الفني، إنها بؤرة فقط، أو إذا شئنا استبدال هذا المجاز فلنقل إنها مراكز التصفية، (كتاب اتجاهات جديدة في الأدب للناقد جون فليتشر).
فضلا عن قراءته للكتاب الإنكليز، لذا ترى كتبه الموضوعة، أو المترجمة زاخرة بأسماء كتاب أوروبيين وغربيين: جيمس جويس، فرانتز كافكا، هيرمان ملفل، جين أوستن، فرجينيا وولف، تولستوي، ليرمنتوف، غوغول، ديستويفسكي، بوشكين، تورجنيف، ديفيد هربرت لورنس. ف. سكوت فيتز جيرالد، آلان روب غرييه، فضلا عن أساطين الموسيقيين الكلاسيكيين، الذين كلّف اقتناء اسطواناتهم ميزانية هذا الرجل المتواضعة أصلا؛ تقاعد موظف عراقي! جعلته هذه الهواية التي تقترب من الهوس، باقتناء المئات، بل الآلاف من هذه الأسطوانات، ينوء بالديون التي أساءت إلى علاقته ببعض الناس، ولأنه كان دائم التنقل والترحال، بسبب سوء أحوال بلده، فإنه كان يترك هذه الجمهرة الثرة من الكتب والأسطوانات، لدى بعض الأصدقاء الذين لا ينزلونها منزلتها، لأن بعضهم لا يعرف قيمتها، بل يحاول بعضهم التخلص منها، أو حفظها في أماكن قد يصل إليها ماء المطر، أو تعبث بها الحشرات والرطوبة، وما خبر كتبه واسطواناته التي أمنها عند أحدهم في بيروت، ببعيد عن أذهان الدارسين.
لقد ترجم نجيب المانع رواية «كاتسبي العظيم» للروائي الأمريكي سكوت فيتز جيرالد، التي ستحولها عاصمة السينما العالمية؛ هوليوود إلى فيلم سينمائي رائع مثّل دور البطولة فيه، دي كابريو، فضلا عن ترجمته لكتاب «اتجاهات جديدة في الأدب» للناقد جون فليتشر، الذي سبقت الإشارة إليه، وكتاب «مقالات نقدية مختارة» الذي أصدرته دار الشؤون الثقافية والنشر في بغداد سنة 1984 ضمن سلسلة (الموسوعة الصغيرة) واحتوى هذا الكتيب على خمس دراسات قيمة ومهمة عن رواية «دون كيخوته» لسرفانتس، ورواية «موبي دك» لهيرمان ملفل، التي صيرتها هوليوود فيلما سينمائيا، فضلا عن دراسة عن الروائي جوزيف كونراد، ودراستين كتبهما مارسيل بروست؛ الأولى عن ليو تولستوي، والثانية عن ديستويفسكي، لكن جهد المترجم والمنىشئ والروائي نجيب المانع لم يقف عند عوالم الترجمة، التي حذقها وتضلع منها، بل كتب المقال المكثف، المثقف الذي يتوجه به نحو الخاصة، فهو نخبوي الثقافة عاليها، ومنها مقالاته التي نشرها في صحف عربية تصدر في لندن، جمعها، وكتب مقدمة لها وحررها الشاعر والمترجم والباحث العراقي المغترب صلاح نيازي، وأصدرت دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد طبعته الأولى سنة 2011 في ضمن سلسلة (وفاء) وحمل هذا الكتاب عنوان «جسارة التعبير».
إحدى مقالات هذا الكتاب، حملت عنوان (سايكولوجية الكتابة لمطبوع يعيش ساعتين) يطرح المانع، قضية جديرة بالمناقشة، عن جدوى الكتابة التي لا تدوم أكثر من ساعتين، وتذهب إلى الظلام، أي الكتابة في الجريدة اليومية، التي تحيا ساعات الصباح فقط، فإذا انتصف النهار، لمست عزوف القراء عنها، فقد تخطاها الزمن، وأضحت عبئا على ربة المنزل.
إن تراكم الجرائد يفتح بابا لأكثر من نزاع عائلي، فالزوجة والأم تريد بيتا محتميا بنفسه، عن خضم العالم الخارجي، بينما يريد الزوج أو الابن بيتا يتلاطم ويتلاحم مع الدنيا. إذن، ما السبيل إلى الوصول للقارئ، الذي هو الهدف الأساس من الكتابة، وما كل القراء يتوقون لقراءة الكتاب؟ تأتي المجلة الأسبوعية نقطة وسطى بين الجريدة والكتاب، الذي هو الأبقى والأدوم في الذاكرة، لا ضير بالمجلة الشهرية، ولذلك يميل الكاتب في المجلة الشهرية – كما يقول المانع- إلى عبور الزمان الأوسع، ظانا أنه على مبعدة من صندوق القمامة؛ الذي هو المصير الحتمي للجريدة اليومية. إذن ما السبيل للوصول إلى القارئ، سوى هذه الوسائل؛ الجريدة، المجلة أسبوعيتها وشهريتها؟ إنك راغب في الوصول اليومي للقارئ، تعرض بضاعتك عليه، لكن هنا يقف أمامك ذوق القارئ، فما كل القراء براغبين في قراءة الأدب والشعر والثقافة، تعرض بضاعتك على قارعة الطريق، أو مكان لبيع الجرائد؛ بضاعتك المزجاة في بطن الصحيفة، لكن كثيرا ما يعود الكاتب الذي يأخذ نفسه مأخذا جديا – كما يقول الأستاذ نجيب المانع – حاملا طبق بضاعته من غير أن يثلم أدنى ثلم، فالناس المسرعون إلى شؤون الحياة الدنيا، لا يرون ما في الطبق، إنهم منشغلون في ما يوسع الكرش ويدلقة بوصات إلى أمام! وهكذا يرجع الكاتب إلى نفسه أشد إفلاسا في العلاقات القرائية، مما كان قبل أن يكتب.

في مقالاته هذه يؤكد أن ثمة من يتهمه بأنه نخبوي، ويا لعارنا أن تكون النخبوية والثقافة العميقة منقصة ومثلبة، مع أنها تجعل الفرد يتيه بها زهوا وفخرا، لكنه المانع الكبير، لا يأبه لرأي القطيع، مؤكداً أن هذا الاتهام تشريف يتجاوز ما يستحقه، واضعا أمامه قانون (كريشام) الاقتصادي؛ ومفاده أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.

وإذا كان العراقيون يعولون على المجلة الشهرية بوصفها الأبقى والأكثر بقاء، فإن المصريين يرغبون في النشر في الجريدة اليومية، واضعين في الحسبان أن خيرة كتاب مصر، كانوا ينشرون في الجرائد: طه حسين، العقاد، زكي مبارك، محمود أمين العالم، رجاء النقاش، توفيق الحكيم.. ولعل المنشئ الأنيق نجيب المانع يتواءم – كذلك- مع آراء المصريين بضرورة النشر في الصحيفة اليومية، التي على الرغم من السويعات القليلات، التي تمكث في باصرة القارئ، فإنه يرى أن كتابا ومؤرخين وعلماء وجدوا في الجريدة اليومية معبرا إلى جمهرة القراء، ما كانوا يجدونهم إذا خاطبوهم بين طيات كتاب، فاسمهم الفخم على الصحيفة، يوجد لهم مزيداً من القراء الذين يبحثون في ما بعد، عن كتاب تصنعه مساهماتهم الصحافية، فالمقالة وعد بكتاب، والكتاب تنفيذ لهذا الوعد. وإذ يعاتب نجيب المانع، الروائي فلوبير، والموسيقي برامز لشحهما وتقتيرهما في مقالته (فلوبير الفرنسي وبرامز الألماني الشحيحان) إنهما كانا ينقطان إبداعهما تنقيطا، ولأن فلوبير كان يرى أن سلة المهملات أفضل أصدقاء الكاتب، يعاتبهما من الذي جعلكما حكمين على عمليكما، فحرمتمانا من عجائب ذهبت مع الريح، وإذ يعاتبهما نجيب المانع، فإني لأعاتبه على شحه وتقتيره هو الآخر، وهو المثقف النخبوي، لماذا وهبتنا رواية واحدة «تماس المدن» ومقالات مكثفة، لولا من اعتنى بها وأخرجها من بطون الجرائد لظلت قابعة هنالك؟ أقدر ظروفك العاصفة يا سيدي، فكلنا نالنا نصيبنا من هذا العسف والعصف.
في مقالاته هذه يؤكد أن ثمة من يتهمه بأنه نخبوي، ويا لعارنا أن تكون النخبوية والثقافة العميقة منقصة ومثلبة، مع أنها تجعل الفرد يتيه بها زهوا وفخرا، لكنه المانع الكبير، لا يأبه لرأي القطيع، مؤكداً أن هذا الاتهام تشريف يتجاوز ما يستحقه، واضعا أمامه قانون (كريشام) الاقتصادي؛ ومفاده أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.
بعد أن طوحت الدنيا بنجيب المانع، في أماكن شتى، فمن الزبير حيث ولد حتى البصرة، حيث درس وتفتحت مداركه، ومنها إلى خانقين وكركوك، عاملا في مجال النفط، ومن ثم نحو بغداد، ليكون أول مدير عام عراقي لمصلحة توزيع المنتوجات النفطية في تموز/يوليو 1959 فنحو بيروت، ثم العودة إلى بغداد ومبارحتها ثانية نحو الجزيرة العربية، التي تعود أصوله إليها، وأخيراً حط طائره في لندن، فكتب في جريدة «الشرق الأوسط» لكنه ما لبث أن غادرها. ترى هل كان نجيب المانع يعاني حدة في الطباع، أهذه موروثة أم مكتسبة بسبب الإخفاقات التي مرّت به أو مرّ بها؟ وقد تأكدت من هذه الحدة؛ حدة الطباع من خلال قراءتي للكتاب الوثائقي الممتع الرصين «الرحلة الناقصة» للأديبة العراقية المغتربة فاطمة المحسن، ومعاناته الغربة الذاتية والروحية، وجل المبدعين يعانون غربة الروح والزمان والمكان، وما أروع قولة من قال: أن تكون إنسانا فهذه مسؤولية ومهمة شاقة.
توفي نجيب المانع في بيته في لندن سنة 1991 وإذ جلب انقطاعه انتباه شقيقته القاصة والروائية سميرة المانع وزوجها الشاعر صلاح نيازي، فذهبا إليه ليجداه قد فارق الحياة منذ ساعات وساعات وسماعة الهاتف منسدلة على صدره، ويا لسنوات العمر التي تتصرم سراعا.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول يحيى صديق يحيى:

    مقال شيق وجميل … لا أدري لماذا لم تُشر إلى روايته الهامة (تماس المدن).. رواية مميزة على مستوى الصنعة والفكرة، اظنها لم تحظَ بالاهتمام الكافي من لدن النقد العراقي.. مع التقدير

  2. يقول يحيى صديق يحيى:

    مقال شيق وجميل.. لا أدري لماذا لم تُشِر إلى روايته (تماس المدن) المُميزة على مستوى الصنعة والفكرة.. اظنها لم تَحظ بالاهتمام الكافي من لدن النقد العراقي..
    مع التقدير

إشترك في قائمتنا البريدية