قد نميل في اللغة إلى أن نجمع شيئين جمعا فيه تلازم من نوع (بَيْتَ بَيْتَ) في قول العرب (هُو جَاري بَيْتَ بَيْتَ) لبيان أن الجيرة قريبة قربَ مُلابسة، ونحن نقول باللهجة العامية اليوم في تونس هو (جاري الدَّار في الدَّار).
هذا الضرب من التلازم كان نحاتنا العرب يسمونه المركّبات وهو ضرب من الكلمات المتلازمة التي تفقد الإعراب ويبنى فيها الجزءان ويصيران كاللفظ الواحد. ومن أمثلته في العربية أيضا (وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ) أي في فتنة و(لقيته صَحَرَةَ بَحَرَةَ) أي ليس بيني وبينه ساتر (انظر شرح المفصّل 4/ 116-17).
ومن هذه المتلازمات ضرب يسمّيه النحاة الكنايات وكنايات النحاة فيها معنى جامع يؤلف بين ما يعنونه منها، وما يعنيه البلاغيون إذ هي «التورية عن الشيء بأن يعبّر عنه بغير اسمه» (شرح المفصل 4/125) لكنّ الكنايات في هذا السياق عندهم هي مبنيات مكررة، وهي أنواع من بينها ما قد يدلّ بشكل خطاطي على الحديث إذ يكنّى عنه فيقال، قال لي (كذا كذا) أو قال لي (كَيْتَ كَيْتَ) و(ذَيْتَ ذَيْتَ) فكأنما لا يراد بهذه الكناية أن يفصّل ما قيل وما حدثت به، فيُلجأ إلى الإخفاء والتورية.
هذه المركبات المتلازمة تخلقها الحاجة إلى التعبير عن تلازم أشياء أو تجاورها أو استرسالها معا، ولذلك تفقد هذه العبارات أداة العطف التي كانت تربط بين مكوّنيها ففي قولهم (تفرّقوا شَذَرَ مَذَر) أي ذهبوا أشتاتا، فإنّ الأصل أن يقال (شَذَراً ومَذَراً) فنزع العطف والإعراب عن المركب الأصلي وبات مركبا تتلازم فيه العبارة مع العبارة، تلازم جزء الكلمة مع جزئها. قد يصطلح حديثا على هذه العبارات المتلازمة باسم المتصاحبات اللفظية أو المتلازمات وهو تعريب لمصطلح Collocations الذي يعني على العموم تركيبا تلازميا بين كلمات تستعمل في سياق مخصوص، ففي (بيت بيت) لا يمكن أن تستعمل هذه المتلازمة إلا في سياق التجاور وفي (شذر مذر) لا تستعمل هذه العبارة إلا في سياق التفرق والتشتت دون غيره، فالمتلازمات عبارات سُكّت، أي سبكت سبكا واحدا ووجّهت إلى أن تستعمل في سياق معلوم وليس هناك من حرية في استعمالها خارجه.
المتلازمات التي تعنينا في هذا المقال ليست من هذا الضرب الذي درسه اللسانيون وأشبعوه درسا. نحن سنتحدث عن متلازمات مخصوصة بخطاب معين أو بكلام معين لا علاقة له بعامة كلام الناس ولا باستعمالاتهم المشتركة، بل هو ضرب من التلازم المختص بكلام شخص أو بخطاب معين.
لفت انتباهي في القرآن الكريم استعمال تلازمي متواتر لعبارتي (نخيل وأعناب) في أكثر من آية (البقرة، 266؛ النحل، 11 و67؛ المؤمنون 19؛ يس، 34) يقول تعإلى في البقرة (أيودُّ أحدكم أن تكون له جَنّة من نخيل وأعناب) وفي سورة النحل يقول جلّ وعلا ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب). ومن الممكن أن يقترن ذكر النخل والعنب في غير هذه الصيغة الدالة على الجمع؛ ففي الكهف 32 يقول تعإلى (جعلنا لأحدهما جنَّتين من أعناب وحَفَفْنَاهُمَا بنخل) ويقول في الإسراء 91 (أو تكون له جنَّةٌ من نَخِيل وعِنَبٍ) فاستعمل صيغتين في الجمع مختلفتين هما جمع تكسير في (نخيل) وجمع مخصوص يعرف باسم الجنس الجمعي في (عنب). نخيل وأعناب جمع تكسير متولد من اسم جنس جمعي.
لا فائدة لغويا أن تعرف الجنة بذكر مكوّناتها الأساسية، إن كانت أساسية فعلا، فلا يقال مثلا سكنجبين من خلّ وعسل، أو خبز من طحين وماء، ففيه من الحشو والثقل والبداهة ما في نسبة الشيء إلى نفسه.
اسم الجنس الجمعي هو اسم يدل على جمع الجنس، لا على جمع الوحدة، أو النوع كما هو الأصل في الجمع الطرازي. حين نقول (ولد وبنت) فنحن نجمعها بأولاد وبنات جمعا انطلقنا من أصل فيه مفرد يدل على العينة أو النوع. لكنّ (نخل وعنب) هما اسما جنس يدلان على جمع، ونشتق منهما اسم الوحدة حين نضيف إليهما تاء في آخرهما تسمى تاء الوحدة فنقول (نخلة وعنبة) وإذا أردنا الجمع تصرفنا في هذه الوحدة فقلنا (نخلات) ومثل ذلك تمرة وتمرات، ورملة ورملات، وكلمة وكلمات وغيرها. وعنب أيضا يصدق عليه ذلك فيقال عنب للدلالة على هذا النوع من الثمار بما هو جنس، فإذا أردنا الوحدة منه زدناه تاء للوحدة فقلنا عنبة، ومن الممكن أن يجمع على عنبات، غير أنّ هذا الجمع غير مستعمل إلاّ في سياق مخصوص كجمع البثرة التي تنبت في العين أو الحلق وتسمى عِنَبَة على عنبات فرارا من أعناب المحيلة على السياق الأصلي للجمع.
الجمع النظامي لنخلة هو (نَخْلات) والجمع النظامي لعنبة هو (عِنَبَات) لكنّ السياق في الآيات المذكورة عدل بها عن هذا النظام إلى بناء في الجمع يسمى جمع التكسير، الذي يكسَّر فيه بناء المفرد، أي لا يلتزم بصيغة الجمع السالم للعاقلين أو لغيرهم. التلازم بين النخيل والأعناب في الآيات المذكورة في القرآن لا علاقة له بالمتلازمات التي تحدثنا عنها، لأنّه تلازم اختياري ولم ينزع فيه الإعراب عن المركب، ولم يفقد فيه التركيب هويته الدلالية ولا الإعرابية. إذن هو تلازم بين صيغتي جمْع عُدلا عن النظام، لكنّ هذا لا يعنينا كثيرا هنا، لأنّا نريد أن نبحث في علة الجمع النظامي بين هذين النوعين من الثمار في سياق حديث القرآن عن الجنان الأرضية.
تعني الجنة في اللغة البستان (لسان العرب مادة ج ن ن 13/99) وسمّيت الجنة التي هي نقيض النار كذلك، لأنّها بستان خلد فيها النبت والماء والأنهار والأشجار وكل ما جن من نبت، أي غلظ واكتهل (السابق، 99). وينسب إلى أبي حنيفة أنّه قال: نخلة مجنونة إذا طالت. فحريّ ببستان فيه نخل مجنون أن يكون جنّة، بل إنّ في التراث ما يدلّ على أنّ العرب كانت تسمّي النخيل جنة. ويبدو أنّ الأمور قد تطوّرت في الاستعمال إلى قولهم إنّ الجنة لا يمكن أن تتألف من نخل دون عنب، فقد ذكر في لسان العرب أنّه وحتى تستوفي البستان شروطها كي تكون جنة، لا بدّ أن تجمع بين نخيل وأعناب يقول: «لا تكون الجنّة في كلام العرب إلا وفيها نخل وعنب، فإن لم يكن فيها ذلك وكانت ذات شجر فهي حديقة وليست بجنة» (لسان العرب، 13/100). بالطبع لنا أن نذهب في فهم هذا الكلام مذهبين: أولهما أنّ القرآن وهو يجمع بين الأعناب والنخيل، يستجيب لهذا المعنى المزروع في الثقافة وفي الأذهان، ولهذا وجدنا في جميع الآيات السابقة تكريرا للفظ الجنة (جنة من نخيل وأعناب) (البقرة 266) و(جعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب) (يس 34). المذهب الثاني، الذي نميل إلى ترجيحه، أنّ هذا الاستعمال المتلازم للنخيل والأعناب الذي كرّس مفهوم الجنة أعلاه، وهذا يعني أنّ التلازم قد أملى التعريف المعجمي للجنة من جهة مكوّناتها التي ذكرت في القرآن. إن كان معنى الجنة أن يتلازم فيها النخيل والعنب، فينبغي أن يكون ذلك متعارفا عليه في البيئة التي نزل فيها القرآن، أو في محيطها وهو ما لا تأييد واقعي فيه. ومن ناحية أخرى فإنّه لا فائدة لغويا أن تعرف الجنة بذكر مكوّناتها الأساسية، إن كانت أساسية فعلا، فلا يقال مثلا سكنجبين من خلّ وعسل، أو خبز من طحين وماء، ففيه من الحشو والثقل والبداهة ما في نسبة الشيء إلى نفسه.
الجمع بين النخل والعنب هو جمع نادر لانتماء كلّ من الشجرتين إلى مجالين فلاحيّين مختلفين، لكنّ رمزيّة هذا الجمع والتلازم هي المقصودة، فلن تكون جنّة عادية تلك التي تجمع بين هذين المتلازمين، ولن تكون من غير توجيه رباني لذلك كان هذا التلازم خارجا عن المألوف خروجا مقصودا باختلاف القصد منه في كل آية.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية