لم يكن نزار قباني شاعر سوريا وحدها، بل كان شاعر كل بلد عربي، وكل قلب عربي، ومن الصعب أن نجد شعراً، قديماً أو حديثاً، تحفظه الأذهان وتردده الألسن، كما تحفظ وتردد شعر نزار قباني. لا ينطبق هذا على شعره العاطفي فقط، وإنما يسري أيضاً على شعره السياسي، إذ كان نزار قباني يمسك قلمين، قلماً يسيل عذوبة على الأوراق، ويخط أجمل وأرق معاني الحب والغرام والغزل، وقلماً آخر أشبه بالسكين يفتح الجروح، ويُسيل قيحها وصديدها، حسب وصف الشاعر نفسه «يا وطني الحزين.. حولتني بلحظة.. من شاعر يكتب شعر الحب والحنين.. لشاعر يكتب بالسكين». من القلم الأول، تفوح رائحة الورود والياسمين الدمشقي، ومن القلم الثاني، تفوح رائحة المرض العربي والعفن السياسي. وقد استطاع نزار قباني، أن يتسيّد الشعر العاطفي والشعر السياسي، على الدرجة ذاتها من القوة والفرادة، وله الكثير من القصائد المتمردة، على الأوضاع والنظم القمعية القميئة، التي كان يسعى من خلالها، إلى تحطيم القيود الثقيلة والسلاسل والأغلال، بل إن قصائده تلك تعد من أفضل ما كتب في هذا الميدان. ولكل نوع قراؤه ومحبوه بطبيعة الحال، الذين يفضلونه على النوع الآخر. وهناك من يرى نزار قباني، شاعراً عاطفياً في الأساس، وهناك من يراه شاعراً سياسياً أصيلاً، لا ينفصل عن السياسة حتى في شعره العاطفي. والغناء أيضاً، كان للشعر السياسي نصيب منه، وإن كان قليلاً، فقد تم تلحين وغناء بعض القصائد السياسية، منها قصيدة «قمعستان» على سبيل المثال.
ويجب القول إن نزار قباني شاعر لم يصنعه الغناء، ولم يستمد شهرته من الملحنين، والمطربين الذين تغنوا بشعره، بل كان ولا يزال مطمحاً للكثير من المطربين، وغاية يسعون إليها، ومصدراً للفخر والزهو بالنفس، إذا غنى أحدهم قصيدة أو قصيدتين، من أشعار نزار قباني، حيث يرفع ذلك من شأنه، وينقله إلى مستوى آخر. ربما ساعد الغناء على انتشار أكبر لشعر نزار قباني، خصوصاً في مرحلة البدايات، وعلى يد الرواد من كبار الملحنين والمطربين، لكن ذلك لم يصنع الشاعر نفسه أو مكانته الشعرية، وما ذهب إليه هؤلاء الرواد، إلا لأنه كان شاعراً كبيراً. وليست قصائد نزار قباني المغناة، هي وحدها المحفوظة في أذهان الناس، فهناك الكثير من القصائد غير المغناة، يظل كلها أو بعضها عالقاً في الذهن، بعد أن ينتهي القارئ من المطالعة.
التفاعل الشعري مع النكسة
يرى البعض أن نزار قباني، هو صاحب أهم وأشهر قصيدة، كُتبت عن مأساة عام 1967 المعروفة باسم النكسة، بل إنها قد تكون أول قصيدة كُتبت عنها أيضاً. إذ تم نشرها حينذاك، ولم يكن قد مرّ شهر على ذلك التاريخ المشؤوم، تاريخ الخامس من يونيو/ حزيران سنة 1967. عنوان القصيدة «هوامش على دفتر النكسة» وهي قصيدة معروفة لدى الجميع تقريباً، ويحفظ الكثيرون أغلب مقاطعها، تبدو هذه القصيدة الطويلة، المكونة من عشرين مقطعاً، كأنها كُتبت دفعة واحدة، تحت تأثير لحظي شديد القوة، وثورة عنيفة داخل النفس. ذلك أن الشاعر تناول الحدث، وهو لا يزال يتلقى الضربة، التي أفقدت العرب توازنهم، وجعلتهم يواجهون الحقيقة، التي لم يعد من الممكن إنكارها، ويفيقون من أوهامهم للحظات، قبل أن يعودوا إليها من جديد. الملاحظ أنه، وعلى الرغم من حالة فقدان التوازن العارمة، والأجواء المضطربة، التي كانت سائدة في ذلك الوقت، كان نزار قباني معتمداً في قصيدته على العقل لا العاطفة، إذ تمثل «هوامش على دفتر النكسة» لحظة حادة من لحظات الوعي، بل قد تكون أشد هذه اللحظات حدة، حيث الوقوف وجهاً لوجه أمام الكارثة، والنظر إلى المصيبة في عينيها. في أبيات هذه القصيدة، يُظهر الشاعر رؤيته التشريحية العميقة، لأمراض العرب المزمنة المستعصية على الشفاء، بشكل صريح مباشر، لا يناور ولا يهادن، وكانت عباراته جريئة جداً في زمنها ولا تزال، وكذلك ما استخدمه من كلمات، وهو يعدد تفاصيل اللعنة، ويحدد أركان الكارثة. وضع نزار قباني مرآة هائلة أمام العرب، لينطر إليها كل عربي ويرى نفسه فيها، وكان هو من رفع صوته آنذاك، وبعد أقل من شهر على وقوع المأساة، بينما صمت الشعر في مصر لفترة ما، وعندما نطق، لم ينطق إلا بما هو بعيد تماماً عن الكارثة الحقيقية، لأن مصر في ذلك الوقت، كانت تواجه كارثة أعظم هولاً وأشد بأساً، ألا وهي الخوف من فقدان «الأمل الباقي» الذي هدد بالرحيل. أما الأشعار والأعمال الأدبية المصرية، التي تناولت النكسة، فقد احتاجت إلى وقت أطول، حتى تتكون وتكتمل لدى أصحابها، وحتى تتمكن من الظهور. والمعروف أن النكسة وإن طالت نيرانها جميع العرب، إلا أنها نكسة مصرية في المقام الأول، ومصر هي التي كانت في قلب الجحيم وبؤرة السعير، وهي من دفعت الثمن الباهظ الرهيب، من حياة المصريين وأعمارهم، وأجيالهم وثرواتهم، وفرصة وجودهم على هذه الأرض، التي لا تُمنح سوى مرة واحدة فقط، وإن ضاعت، تكون قد ضاعت إلى الأبد، ومن المستحيل استعادتها مرة أخرى، ومصر أيضاً من تشبثت بالنكسة وصانعها، وقررت المضي في طريقه حتى النهاية.
بدأ نزار قباني قصيدته بالنعي، والإعلان عن الموت والهزيمة، من خلال المقطع الأول الذي يقول: «أنعي لكم يا أصدقائي.. اللغة القديمة.. والكتب القديمة.. أنعي لكم.. كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة.. ومفردات العهر والهجاء والشتيمة.. أنعي لكم.. أنعي لكم.. نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة». ثم أخذ في المقطع التالي، يصف شعوره بالمرارة، وتغير مذاق وصورة كل شيء من حوله، وجلل المصيبة التي هي أكبر من الوصف والكلمات. لكنه عبّر عن كل ذلك سريعاً بطريقة مختصرة، ولم يطل ويسهب كثيراً، بل قام بالدخول إلى عمق الجرح مباشرة، كأنه بدأ من النهاية، أو أنه أعطى القارئ خلاصة الأمر أولاً، وبعد ذلك قدم له التفاصيل، حيث يقول: «إذا خسرنا الحرب لا غرابة.. لأننا ندخلها.. بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة.. بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة.. لأننا ندخلها.. بمنطق الطبلة والربابة». هل هناك أبلغ مما قاله نزار قباني في هذا المقطع؟ هل هناك أوضح من ذلك؟ قال هذه الكلمات بعد أقل من شهر على وقوع النكسة، وإلى اليوم وبعد كل هذه العقود والسنوات، لا يزال هناك من هو مستعد لأن يتبع زعيمه إلى الجحيم، وأن يمسك بالطبلة والربابة، وأن يصفق ويهلل للعنتريات التي لا تستطيع أن تقتل حتى الذباب، لا يزال للجعجعة الفارغة جمهورها العريض، ولا تزال الحنجرة تكسب اللعبة وتفوز بالمجد، لا يزال التشبث بالمستنقع قائماً، ولسان الحال، اللعنة على من يحاول إخراجنا من هذا المستنقع، واللعنة على من يتركنا ويخرج هو من هذا المستنقع.
ومن العبارات البليغة الأخرى، التي قالها نزار قباني في قصيدته، تأكيداً على هذا المعنى أيضاً، ذلك البيت الذي يقول: «بالناي والمزمار لا يحدث انتصار» يبدو الأمر غريباً عصياً على الفهم، وغير مصدق لأنه غير منطقي بالمرة، لكنه حقيقي وموجود لدينا بالفعل، هناك من لا يعنيه سوى الناي والمزمار فقط، وإن ضاعت الأرض كلها، وإن ضاعت الناس كلها، وإن ضاعت الحياة كلها، المهم هو الناي والمزمار. لم يبحث نزار قباني عن أسباب للهزيمة خارج ذواتنا، ولم يحملها لأي أسباب أخرى سوى أفعالنا، وطريقة تفكيرنا وتعاملنا مع الأمور، وهذا الخلل العميق الضارب بجذوره في أعماقنا، الذي يشير إليه الشاعر في هذا البيت: «نجعل من أقزامنا أبطالاً.. نجعل من أشرافنا أنذالاً». بعد ذلك بعدة مقاطع، ينتقل نزار قباني إلى الحديث عن السلطان، ومعروف طبعاً من كان السلطان في ذلك الزمن، وهذا حديث خطر ومخيف ومرعب، لذلك يكرر الشاعر هذه العبارة، «لو أحد يمنحني الأمان» فلا أمان يُمنح ولا سلامة مضمونة، ولا لقاء مع السلطان ولا وصول إليه، لذلك خلق الشاعر حواراً وهمياً متخيلاً مع السلطان، وأخذ يروي له عن كلابه المفترسة التي تنهشه، وعسكره وجنوده ومخبريه، الذين يضربونه بالحذاء، ويرغمونه على أن يأكل من حذائه، ويراقبونه ويستجوبون زوجته، ويراقبون أصدقاءه أيضاً، ثم يحدثه عن «الشعب الذي ليس له لسان» عن «الشعب المحاصر كالنمل والجرذان». في الجزء الأخير من القصيدة، يقول نزار قباني: «نريد جيلاً مختلف الملامح.. لا يغفر الأخطاء لا يسامح» وهذا من أخطر وأهم ما قاله، فيجب ألا ينسى أحد كل ما حدث، حتى إذا تغير الحال يوماً، حتى وإن صارت الأرض جنة، يجب ألا ينسى أحد كل ما حدث، وألا يتخلى أبداً عن الحقد المقدس في صدره. هذا هو الجيل الذي تمناه وحلم به نزار قباني، وحدد أهم صفاته، عدم الغفران وعدم التسامح، وأي مغفرة لمن يدمر حياة الناس تدميراً ما بعده تدمير؟ وأي سماح ومسامحة لمن يضيع الأرض ويبدد الأوطان؟
بمهارة فائقة وصدق شديد، لخص نزار قباني في قصيدته، أسباب ما حدث، الأسباب القديمة التي كانت معاصرة في زمنها، والحاضرة المتفاقمة في زمننا، والمستمرة مستقبلاً إلى أمد غير معلوم على ما يبدو. تعد هذه القصيدة الرائعة وثيقة بالغة الأهمية، وشاهداً على ما جرى، فيها نجد مرارة اللحظة، التي احتفظت بها طازجة إلى الأبد، يذهب نزار قباني بالقارئ إلى أجواء يونيو 1967، ويطرح الأمور على حقيقتها، بشكل يظل أثره ماثلاً في الأذهان طويلا. حيث نبرة الصوت الملائمة للموضوع، وحرارة الانفعال، وقوة التعبير عن مشاعر التفجع مما حدث، والتأسي على الحال، واللوعة من ثقل الواقع. لم يكن سهلاً أن يتعهد نزار قباني موضوع النكسة، ويعالجه شعراً في هذا الوقت القصير، لكنه تمكن من التكلم بالحق والنطق بالصواب، وشرح موطن الداء وعلة المصيبة، شرحاً وافياً كاملاً. في قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» نستمع إلى خطاب العقل والمنطق، والرؤية الواضحة لدى نزار قباني، ونرى انتصاره على العواطف الطاغية، التي سيطرت عليه في قصيدة أخرى، كتبها في رثاء الزعيم العربي العظيم الخالد جمال عبد الناصر، بعنوان «قتلناك يا آخر الأنبياء» وهي نقيض صارخ لقصيدة «هوامش على دفتر النكسة» إذ أتى الشاعر فيها، بكل ما رفضه مسبقاً وعابه، ورأى أنه من أسباب النكسة والهزيمة والفشل الذريع. والمعروف أن مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر، كانت في حالة من الحزن العميق، بسبب فقدها لـ»آخر الأنبياء» ، وربما امتدت هذه الحالة الحزينة، إلى بعض الدول العربية الأخرى، كما يبدو من قصيدة نزار قباني، على كلٍ ترك هذا الشاعر الكبير القصيدتين، وسط ما ترك من أشعار جميلة، وكل منهما يمثل اتجاهاً فكرياً ونفسياً، واختياراً مطروحاً بين العاطفة والمنطق.
كاتبة مصرية