بحكم الصداقة العائلية كان نزار قباني يعرف أمي (لم أكن أعرفها يومئذ، فقد توفيت في الثلاثين من العمر)، وهذه مقاطع من قصيدة لنزار قباني في رثائها يومئذ في حفلها التأبيني، وهي غير منشورة في كتبي أو كتبه.
بعد عينيك مات حلو رنيني
والغنوج الممراح من تلحيني
إيه سمرائي الشهيدة، لم أخلفت
وعدي والعهد أن تصدقيني
وعدنا كان أن ألاقيك في البشر
فكان اللقاء في التأبين
في الثلاثين، يوم لفلفك الموت
عروساً لم تفرحي بالسنين
الثلاثون تلك عز الصبيات
وعز الصبيات وسن الورود والياسمين/مصرع الشيخ يستهان ولكن، لم تهن قط ابنة العشرين
لي في المخدع الأنيق ليال، ولياليك تشترى بالقرون
أنت لي تنصتين والناي رجاف
فندمي بالشعر صدر السكون
إن للشعر أهله.. كم غبي، كلما قمت منشداً لا يعيني..
أنا نهر من الحكايا من الرمز وأنت استطعت أن تفهميني..
أنا ابن العشرين، تحت قميصي
جسم شيخ مخلع مرصون
لي وجود من الدخان ووجه، أنت من وهم صورتي لن تريني
في ثيابي شيخ وما أنا بالشيخ، ولكن تجنى علي شجوني
يأكل الحب صمتي والعذابات
كذا قد خلقت منذ تكويني
حفر الدمع في خدودي دروباً
وغضون الهوى أشد غضون
كم حبيب حرسته يسكن الريش المندس على ضفاف جنوني
لم أزل أصنع المراثي حتى
صار بي حاجة لمن يرثيني.
يا لياليك في السرير تنوين
بطعنات مبضع مجنون
كبر الله، ما تحديته قط
ففي راحتيه أمر المنون
غي أن الأعمار ليست ألاعيب على كف أحمق مأفون
عصبي مستهتر يقطع الشريان طيشاً، وكل عرق دفين
يضرب المشرط اللئيم كما الجرّاح
يلهو بجسم كبش سمين
لم يك المجرم الذي يقلب العرف
فيا رب مجرم قانوني!
وكما ذكرت، كنت طفلة في الرابعة من العمر حين كتب نزار هذه القصيدة الرثاء لأمي، ومما جاء فيها أيضاً:
إيه.. يا غادتي الحبيبة أنت العمر
أنت الأضواء تهدي عيوني
غادتي، إن تلك الأمومة دين، بدم الأم، أنت ديري ودَيني
انشري لي ضفيرتين تنوسان
أداعبهما فقد حان حنيني
لن تريني غداً لأضفر هذي الخصل السمر في يدي.. لن تريني
من يلف الحرير في شعرك الطفل
ويطليه بالشذى والدهون
قربي من فمي.. فما يخجل الورد
صغير التدوير والتكوين
والثمي أمك الجريحة بنيتي
فغداً لن أعيش كي تلثميني
أيها القبر، نم في شقرة الرمل، تحمل تحيتي وحنيني
إيه، سأمسي عند ازرقاق المويجات
وغنج القلوع فوق السفين
قبرك الشاطئ كالورود البيضاء، ملقى عبر الروابي الغنين
إيه أختي.. بحّت بثغري القصيدات
وخارت شبابتي فاسعفيني
سبح المنبر المجلل من تحتي، بنهر من الدموع هنون
المناديل في الأيدي تغسلت، ومات التكحيل فوق الجنون
وحجاب العيون ذاب بها التلوين من أزرق ومن زيتوني
والحرير الهزاز تتبعه الآهات من كل خافق مخزون
قصيدة غير منشورة
هذه القصيدة غير المنشورة، ألقاها نزار قباني في حفل تأبين أمي في مدرج جامعة دمشق.. أعطاها أبي لي بخط يد نزار حين كبرت.
وفكرت في نشرها كمقدمة لكتاب يضم مراسلاتي مع نزار قباني على مر الزمان.. ولما كانت ابنة نزار «هدباء» صديقتي، شعرت بالحرج من طلب رسائلي إلى نزار لنشرها مع رسائله في كتاب يضم مراسلاتنا.
ولذا، كلفت صديقنا المشترك حافظ محفوظ بأن يفاتحها بذلك.. وقالت له إنها لم تجد رسائلي بين أوراق نزار.. ولم ألح عليها أو على حافظ محفوظ.. ورحلا (رحمهما الله) ورسائل نزار ما زالت عندي، لكن رسائلي له لا أدري أين هي.
وكنت أتمنى نشر قصيدة نزار في رثاء أمي كمقدمة لكتاب الرسائل، وبالذات لأنها غير منشورة من قبل؛ أي أنها قصيدة نادرة، كما كنت أنوي نشرها بخط يده. وسبق عام 2010 نشرها في مجلة «الحوادث» المتوقفة عن الصدور، لكنني لا أظن أنني سأنشر رسائله لي دون رسائلي إليه، والإغراء الوحيد هو نشر هذه القصيدة الرائعة كمقدمة للكتاب، إذ لا يجوز أن تضيع مع الزمن. وحتى الآن لم أقرر ما الذي سأفعله.
هل أنشر قصيدة نزار في رثاء أمي ثم رسائله لي؟ لا أدري بعد.