لم تشأ الروائية المصرية جمال حسّان في روايتها الثامنة «نساء الهلباوي» الصادرة عن دار «النسيم» في القاهرة إلاّ أن تكتب هذا النص السردي، بقالبٍ سيري يسرد فيه الرواة المتعددون بمن فيهم «الكائن السيري» الوقائع والأحداث التي تدور حول الشخصية المركزية للنص أو تنبثق عنها ثم نلمس ارتداداتها المباشرة في البيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع المصري. اختارت الكاتبة، عن قصد مسبق، أن يقدّم الرواةُ قصصهم وحكاياتهم بضمير المتكلم، وهي تعرف سلفًا، أنه أنسب الضمائر للسيرة الذاتية وليس للسيرة الغيرية التي نحن بصددها، فالسيرة الذاتية هي التي يكتبها الشخص بقلمه، وعن ذاته شرط أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية. أما السيرة الغيرية فهي التي يكتبها أديب عن شخصٍ ما كأن يكون ملكًا أو عالمًا أو فنانًا أو قاضيًا ترك أثرًا في الذاكرة الجمعية للناس. وما إن يرد اسم ابراهيم الهلباوي حتى تقفز الذاكرة مباشرة إلى حادثة دنشواي المأساوية التي أُعدم فيها أربعة مواطنين مصريين، وحُكم على آخرين بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة إلى آخر هذه الحكاية المفجعة التي تستفيق كلما تصفّحنا التاريخ وكأنها ابنة هذا النهار بينما مرّ عليها 113 سنة بالتمام والكمال، وكان المحامي الهلباوي السبب في إعدام هؤلاء الفلاحين المصريين الذين هبّوا للدفاع عن إمام الجامع وزوجته التي قتلها أحد الضباط الإنجليز الذين جاؤوا لاصطياد الحمائم في تلك المضارب الريفية. إذًا، تتمحور هذه السيرة الروائية الغَيرية على ابراهيم الهلباوي، محامي حادثة دنشواي لكن الروائية جمال حسّان ارتأت أن تكتب عن هذه الشخصية الإشكالية «المستديرة»، والمثيرة للجدل من وجهة نظر النساء الست اللواتي تزوجهنّ وهنّ «زينات، جانسو، حسيبة، آينوربان، كُلستان وآزاد» إضافة إلى أربع نساء أُخريات من العائلة وهنّ (أمه «أم ابراهيم» وابنته سليمة وحفيدَتيْه سُميّة وفضيلة). ويبدو أن الكاتبة أرادت أن تختبر هذه الشخصية الرئيسة وتعالجها من وجهات نظر نسائية متعددة سواء أحببنه أو انتقدنَ سلوكه في السرّ والعلن أو كنّ محايدات له يقفنَ في المسافة الفاصلة بين الحُب والكراهية.
يمكن أن نصف هذه الرواية باطمئنان كبير بأنها رواية «أجيال» أو «حِقب»، كما يُطلَق عليها «الرواية النهرية» لأنها تُشبه نهرًا كبيرًا تصبُّ فيه روافد كثيرة، والهلباوي هو النهر الكبير الذي تصب فيه الجداول الصغيرة مثل النساء العشر والأخريات اللواتي مررنَ به على عجل.
مَنْ يتمعن بهذه السيرة جيدًا سيكتشف أن ابراهيم قد حظي باهتمام الكاتبة التي أفردت له 23 فصلاً، وأن الفصول الأخرى التي تتحدث عن الشخصيات النسائية لا تتفاداه وإنما تدور حوله لأنها تصب في النهر الكبير في خاتمة المطاف وتغذّيه بأسباب الحياة المخملية الراقية التي يتوق إليها ويتمنى أن يعيشها مثل بعض أصدقائه المترفين الذين ينتمون إلى العوائل الملكية الفاحشة الثراء. أما ترتيب الشخصيات النسائية فيمكن رصده بعدد الفصول المُخصصة لكل امرأة، فقد حظيت آينوربان بـ 11 فصلاً، وسليمة بـ 9 فصولاً، وتلتها أم ابراهيم بـ 8 فصول، وفضيلة بـ 7 فصول، ثم تنحدر هذه النسبة إلى فصلين لكل من زينات وحسيبة، وفصل واحد لكل من كُلستان وآزاد. وأنّ أي نظرة عجلى لعدد الفصول تعطينا أهمية كل شخصية على انفراد. فمن بين زوجاته الست تحتل آينوربان المنزلة الرفيعة وقد لبثت إلى جوار زوجها إلى أن وافتها المنيّة ووُري جسدها الثرى في المدفن الذي اشترته وهيأته وهي على قيد الحياة. أما بقية النساء فيترجّحن بين الطلاق، والموت، والمشكلات الزوجية العويصة. فقد طلّق زينات لأنها تعيسة، وتوفيت الجارية الشركسية جانسو، وهجر حسيبة تاركًا إيّاها عند أبويها مع ولديها كمال وسليمة، وبعد رحيل آينوربان أوشك أن يرتبط بجوشين، وهي مطلّقة أحد أنجال السلطان عبدالحميد لكنه اختلف معها على الراتب الذي يجب أن يمنحه لابنها الصغير، ثم تزوج كُلستان المريضة التي غيّبها الموت قبل أن تتماثل للشفاء ليعقد قرانه على آزاد التي ترمّلت بعد وفاة زوجها الثري في إستانبول وسوف يفارقها الهلباوي بعد ثلاث سنوات من العيش الرغيد، وكان وفيًا لها حيث وزّع ثروته بما يُرضي ضميره إلى ابنه كمال، وابنته سليمة، وزوجته كُلستان من دون أن ينسى الخدم، فيما أفرد نصيبًا لنقابة المحامين، وآخر للجمعية الخيرية الإسلامية.
تتناول الروائية جمال حسّان ثنائية الشرق والغرب من خلال شخصية حفيدة الهلباوي فضيلة التي تذهب للدراسة في لندن لكن الكاتبة لم تعطِ هذه الشخصية حقها مع أنها كانت فرصة ذهبية لكشف المستور، وتعرية المسكوت عنه، ومناقشة الأمور اللامُفكَّر فيها
يبدو أنّ الابن على سرّ أبيه فقد تزوج والده امرأة ثانية إلى جانب أمه التي شعرت بالغربة خاصة بعد أن مات والدها، واشتط بأخيها المزار ولم تجد بُدًا من بثّ شكواها للسيد أحمد البدوي الذي يمنحها الطمأنينة والسلام. لم تتتبع الروائية سيرة إبراهيم منذ الطفولة وإنما قفزت إلى مرحلته الدراسية في الأزهر وأحاطتنا بتأثره الكبير بدروس الشيخ جمال الدين الأفغاني لكنه سرعان ما شعر بالملل من هذه الدروس خاصة وأنّ البعض كان يعِّده مُلحدًا الأمر الذي دفعه لأن يترك الأزهر نهائيًا ويتجه إلى الصحافة فكتب مقالاً عن فساد الإدارة المحلية كلّفه الدخول إلى السجن لكنهم أخلوا سبيله وعيّنوه محررًا في جريدة «الوقائع» قبل أن يصبح من كُتاب مجلس النواب براتب مُعتبر ويعود إلى بلدته ليشيّد بيتًا ويقترن بزينات، المرأة الساذجة التي تتنقل بين الأضرحة والمزارات. تكشف هذه السيرة عن شخصية الهلباوي النرجسية، فهو يُحب نفسه بطريقة مَرَضيّة، ويتعالى على الناس البسطاء، فعندما سألته حسيبة عن السبب الذي دفعه للزواج منها أجاب: «لكي أتأمل جمالك الفتّان وملابسك الأنيقة فأتحمّل الوجوه البائسة الكالحة في المحاكم يا بنت كبير التشريفات». ويكفي أن نشير إلى وصفه المعيب لأهالي دنشواي بـ «السفلة وأدنياء النفوس» لنكتشف حجم الازدراء الذي يضمره لعامة الناس. ويبدو أن اصطفافه إلى جانب المحتل البريطاني متأتٍ من تبعيته للغرب، وولائه الأعمى لهم، فحتى والدته القروية الطيّبة كانت تشعر بأنه كاره للداخل، ومولع بالخارج، وممجد له بشكل من الأشكال حينما تقول: «أنا كان قلبي حاسس من الأول أنك كاره بنات بلدنا» وخاصة اللواتي ينتمينَ إلى الطبقة الفقيرة فلاغرابة أن يتزوج أربع نساء تركيات وكان على وشك الاقتران بالخامسة مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المرأة لا تمثِّل بالنسبة إليه أكثر من وعاء جنسي لغرائزه الملتهبة التي لازمته حتى الرمق الأخير.
يمتلك الهلباوي في الجانب الآخر من شخصيته خصالاً محمودة فقد درس القانون وتخصص به، كما تعلّم اللغة الفرنسية، وعمل في الصحافة قبل أن يخوض في أروقة السياسة والمحاكم، وقد عُرف بلسانه الذرب الذي ذهب مثلاً في الطلاقة، وقوة الحجة، فإذا ما ذهب أحدهم لشراء لسان غالي الثمن من القصّاب يخبره مُستغربًا: «هو أنت هتبيعني لسان الهلباوي» في إشارة إلى أنه «ينقذ المجرم من حبل المشنقة». شغل الهلباوي مناصب متعددة طوال عمره المديد حيث أصبح مستشارًا قضائيًا للخاصة الخديوية، ورئيسًا لنقابة المحامين، وعضوًا في الجمعية الخيرية الإسلامية. كما سعى لتصحيح الأخطاء التي ارتكبها في حياته وخاصة فيما يتعلق بحادثة دنشواي وموقفه من الاحتلال البريطاني الذي كان يعتقد بأنه السبب الرئيس في تحرر المواطن المصري وتحضّره. وعلى الرغم من الخطأ الكبير لهذه الرؤية المشوّشة والمعوّجة إلاّ أنه رسّخ ثقافة الاعتذار حينما استغفر الله وطلب الصفح من الشعب المصري الكريم.
تتناول الروائية جمال حسّان ثنائية الشرق والغرب من خلال شخصية حفيدة الهلباوي فضيلة التي تذهب للدراسة في لندن لكن الكاتبة لم تعطِ هذه الشخصية حقها مع أنها كانت فرصة ذهبية لكشف المستور، وتعرية المسكوت عنه، ومناقشة الأمور اللامُفكَّر فيها، وهذه مسألة يفضّلها القارئ الأوروبي لو كان هذا النص السردي مُترجَمًا إلى الإنجليزية أو أي لغة أوروبية أخرى.
لابد من الإشارة إلى أهمية شخصية أم ابراهيم، المرأة الطيبة التي وضعت ثقتها في الأولياء والمتصوفة وأبرزهم السيد أحمد البدوي، فمن خلالها نتعرّف إلى هذه الفضاءات الدينية الموروثة التي تقف بمواجهة الأنماط الحياتية المرفّهة والمتحضِّرة التي كان يعيشها الابن ابراهيم الهلباوي من جهة، وأولاده وأحفاده من جهة أخرى. ولو جمعنا هذه الأجيال الأربعة لتكشّفت لنا حياة المجتمع المصري عبر قرن كامل من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي انطوت عليها هذه السيرة الغيرية التي تُعبِّر عن حذاقة كاتبتها جمال حسّان التي أصدرت حتى الآن خمس مجموعات قصصية، وثماني روايات، بالإضافة إلى دراسة نفسية تحمل عنوان «التفاؤل والطاقة الخلاقة في أيام التحرير».
دار النسيم في القاهرة 2019
عدد الصفحات 240