الناصرة ـ «القدس العربي»: عين كارم أهم وأكبر قرى القدس، جارة قرية دير ياسين، طبيعتها الجبلية الخضراء تستهوي زائريها لكنها تخفي حقيقتها المأساوية منذ احتلت وهجر سكانها الأصليون خلال النكبة من قبل المنظمات الصهيونية. بخلاف بقية القرى الفلسطينية لم تهدم عين كارم التي سكنها نحو أربعة آلاف فلسطيني وحافظ المحتلون الإسرائيليون على كل منازلها الحجرية الجميلة لتوطينها بمهاجرين يهود. لا يخطر ببال زائر من بعيد أن عين كارم البلدة الجبلية بالطريق بين القدس ويافا قرية فلسطينية مهجرة بعدما باتت مستوطنة تحمل نفس الاسم يسكنها المهاجرون الجدد من مختلف أصقاع الدنيا فيما ينتشر أصحابها الشرعيون في ديار اللجوء. كل شيء في ظاهر القرية يبدو عاديا، فهي منطقة سياحية تزدحم فيها المطاعم، والمقاهي والمعارض الفنية ومتاجر الأثريات وكلها قائمة داخل منازل حجرية قديمة، أما شوارعها فمليئة باللافتات التي ترشد حول كل شيء عدا هويتها الفلسطينية. وتعج شوارع عين كارم بالإسرائيليين والسائحين ممن يفدون لزيارة أديرتها السبعة غير أن مسجد عين كارم عمر بن الخطاب، يسخر من الرواية الصهيونية الملفقة للمكان بمئذنته الشاهقة وبلغة الصمت.
كنيسة عين كارم
وحسب المؤرخ بروفيسور وليد الخالدي كانت القرية تنقسم إلى منطقة عليا قوامها مصاطب زراعية، وعلى منطقة سفلى تقع في واد غربي المنطقة العليا ودونها. وكانت المصاطب تبرز من تلال ترتفع إلى ما فوق الموقع وتتجه شرقاً وكان في أسفل الموقع، من جهة الغرب، واد عريض منبسط، أما التلال نفسها فتواجه الغرب. وكانت المياه المتدفقة في وادي أحمد تعبر أرض القرية متجهة نحو الغرب، فتروي بساتين الزيتون الواقعة في الركن الشمالي من القرية. كما يشير إلى أن عين كارم تعد من ضواحي القدس، وطريق مرصوفة بالحجارة تربطها بالطريق العام الذي يصل القدس بيافا، والذي يمر على بعد ثلاثة كيلومترات شمالي القرية، وتشير الأدلة الأثرية إلى أن هذا الموقع كان آهلاً منذ الألف الثاني قبل الميلاد. وتقول إحدى الروايات إن عين كارم هي مسقط رأس يوحنا المعمدان، كما يقال إن السيد المسيح والسيدة مريم العذراء زارا عين كارم مرات عدة وثمة اعتقاد أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مر بها ذات مرة خلال الفتح الإسلامي، وصلى فيها.
في أوائل القرن التاسع عشر، ذكر الرحالة البريطاني جيمس بكنغهام أن ثمة مسيحيين في هذه القرية الصغيرة، وأن شجر الزيتون يكثر في الأودية المتاخمة لها. وأشار غيره من الرحالة، في وقت لاحق من ذلك القرن، إلى وجود كنيسة مار يوحنا الفرنسيسكانية ضمن دير في الجهة الشرقية. كما كان يحف بجانبي القرية، الغربي والجنوبي، دير آخر (لراهبات صهيون) وكنيسة حديثة البناء.
كبرى بنات القدس
كانت عين كارم، كبرى قرى قضاء القدس، سواء من حيث المساحة أو عدد السكان. وكانت منازلها مبنية بالحجر الكلسي والطبشوري، وتعلو أبوابها ونوافذها قناطر مميزة. في سنة 1945 قدر عدد سكانها بنحو 3180 نسمة وكانت عيون كثيرة توفر لهم مياه الشرب. وطبقا للخالدي كان في القرية مدرستان ابتدائيتان إحداهما للبنين والأخرى للبنات، ومكتبة وصيدلية، وكان فيها أيضاً نواد رياضية واجتماعية عدة وجمعية كشافة للبنين. كان لعين كارم مجلس بلدي يدير شؤونها الإدارية. وفيها، على الرغم من وقوعها في منطقة جبلية، بعض الأراضي المستوية في الشمال ولاسيما في منطقة تدعى المرج، تستنبت فيها الخضروات والأشجار المثمرة. وقد أنشأ سكان القرية المصاطب بواسطة السلاسل الحجرية على السفوح من أجل بلوغ الحد الأقصى من الإنتاج الزراعي، كما غرست أشجار الزيتون وسواها من الأشجار المثمرة والكرمة على المنحدرات الجبلية. في سنة 1944 كان ما مجموعه 1175 دونماً مخصصاً للحبوب، و 7953 دونماً مروياً أو مستخدماً للبساتين. وكان سكان عين كارم يعملون، فضلاً عن الزراعة، في الصناعات الحرفية وفي صناعات خفيفة أخرى كمصنع تعبئة المياه المعدنية الذي كان في القرية، على سبيل المثال. وكان في القرية عدة كنائس وأديرة، أبرزها كنيسة يوحنا المعمدان وتسمى أيضاً كنيسة مار يوحنا، التي يقال إنها شيدت فوق الكهف الذي ولد فيه. ومن جملة المؤسسات المسيحية الأخرى: دير الفرنسيسكان، وكنيسة الزيارة، ودير مار زكريا، وكنيسة سيدة صهيون والقبور التابعة للكنيسة. كما كان في جوار نبع يسمى عين مريم مسجد ذو مئذنة، سمي المسجد العمري تيمناً بعمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين.
المسجد التاريخي شاهد على السطو المسلح
ويوضح دكتور عبد الرزاق متاني المختص بالتاريخ الإسلامي لـ«القدس العربي» أنه لم يتمكن من معاينة المسجد والتحقق من تاريخه بسبب كونه مغلقا لكنه، يشير إلى أن قرية عين كارم بكاملها وقف من الفترة الأيوبية وكان ريعه يعود للسادة المغاربة، ويضيف «استنادا لطرازه المعماري الخارجي قد يكون المسجد أيوبيا أو مملوكيا والمؤكد أنه يعرف بالمسجد العمري وهذه إشارة لقدمه».
المسجد الحجري النادر بفعل ملامحه العمرانية وبفضل عين الماء (عين مريم) المتدفق من داخله يتكّون من طابقين الأول للصلاة والثاني استخدم مدرسة وكلاهما مغلقان منذ عقود ويمنع أداء الفريضة فيه. وسبق وأعلنت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات داخل أراضي 48 أنها أغلقت مسجد عين كارم قضاء القدس لبعض الوقت، وذلك بعدما تبين أن المسجد يستعمل وكراً لمتعاطي المخدرات. وقالت المؤسسة إن عمال الصيانة قاموا إثر تدنيس المسجد بتنظيف محيطه وتقليم الأشجار الموجودة فيه ثم أقفلوه لمنع دخول العابثين إليه وانتهاك حرمته، وستقوم المؤسسة في المستقبل بترميمه من الداخل وفتح البوابة الرئيسية.
يذكر أن مسجد عين كارم يقع في قرية كارم كبرى قرى قضاء القدس، وكان عدد سكانها 3180 نسمة عام 1948 وهم من المسلمين والمسيحيين، وفي القرية عيون ماء كثيرة وعدة أديرة وكنائس ومسجد تعلوه مئذنة.
وكان أهالي عين كارم قد هجّروا من منازلهم في تموز/يوليو عام 48 وهم موزعون اليوم بين الضفة الغربية والشتات. ويستذكر الشيخ إسماعيل محمد خطيب (90 عاما) المهّجر من عين كارم والمقيم في الأردن أن التهجير بدأ قبل ذلك بثلاثة شهور غداة ارتكاب مجزرة دير ياسين المجاورة في التاسع من نيسان/ابريل. في شهادة مطولة عرضتها منظمة «ذاكرات» الإسرائيلية في كراسة عن البلدة الفلسطينية المهجّرة، يستذكر الشيخ الخطيب صدمته يوم عاد وزارها لساعات للمرة الأولى عام 1998. ويقول إن صديقا له ألح عليه لزيارة عين كارم ولو عن بعد ويتابع «أخذت حبتين مهدأ من نوع فاليوم وركبنا السيارة من القدس نحو عين كارم ولما شاهدتها من جبل راس التوتة أصابني دوار وهبطت أرضا وأخذت أصرخ».
«ستنا مريم»
في رسالته المطولة يستعيد الخطيب زيارته ويوضح أنه تجول في شوارعها وهو يستذكر كل نافذة من بيوتها الحجرية الجميلة منوها أنه هدأ من روعه قليلا زيارته المسجد وعين «ستنا مريم» وغسل وجهه بمياهها المنعشة. منوها أن الزيارة الثانية لعين كارم بعد عامين لم تكن أسهل لافتا لخشيته وقتها من أن يبكي أمام حفيداته اللواتي رافقنه بالزيارة ويشير لقسوة زيارتهم لبيت العائلة المسكون من قبل عائلة يهودية لم تكن وقتها فيه خلال الزيارة. موضحا أن إقامة اليهود في منازل عين كارم «توجع القلب» وتجسد جوهر القضية الفلسطينية. وقالت روي إلفايس يهودية من أصل روسي هاجرت لفلسطين عام 1958 وتقيم داخل أحد منازل عين كارم وقد ربت بناتها الثلاث فيه، ردا على سؤال «ذاكرات» تقول إلفايس إنها قدمت للبلاد وهي ابنة 19 عاما ولم تكن تعرف شيئا، زاعمة أنها لا تدري ماذا كانت تفعل اليوم لكن التناقضات ومشاعر الحرج تسكنها لإقامتها في بيت عربي مهجّر من وطنه. وتقول إن أصحاب البيت الأصليين زاروه غداة حرب 1967 ثم كرروا زيارتهم له بعد عام منوهة أن الزيارة الثانية كانت محرجة جدا لأنهم طالبوا باستعادة البيت قبل أن ينتهي اللقاء «بشكل مؤلم». وتضيف «اعترف أن هناك فلسطينيين قد طردوا من بيوتهم ولكن هذا يحدث في كل مكان، فعائلتي أبيدت بالمحرقة ولها بيت في روسيا يسكنه اليوم آخرون». وترى روي بضرورة حل قضية اللاجئين بـ «تعويضهم المنصف « بعد اعتراف إسرائيل عن مسؤوليتها التاريخية عن النكبة.
مقبرة دارسة
ومع ذلك تعتبر مواقف روي معتدلة نسبة لبقية المستوطنين اليهود في عين كارم، فهم يرفضون مجرد التحدث بالموضوع ويرون أن البلاد وما فيها لهم كما اكتفى بالقول إيفر طابنسكي. ويقيم طابنسكي داخل بيت مجاور للمقبرة الإسلامية التي تم محوها عدا بعض أضرحتها وتستخدم طريقا للبيوت المحيطة بها فيما نجت الكنائس والمقبرة المسيحية. وأمام محاولات طمس هويتها العربية تدأب منظمة «ذاكرات» على تنظيم زيارات لها وتثبيت لافتات تحمل أسماء مواقعها بعدة لغات تحت إشرافها مدير الجولات الميدانية فيها عمر اغبارية. ويوضح اغبارية لـ «القدس العربي» أن «ذاكرات» تعمل بعدة طرق على إطلاع الإسرائيليين على الرواية التاريخية الفلسطينية لأن تسوية القضية غير ممكن بدون اعترافهم بمسؤوليتهم عن النكبة وبدون عودة اللاجئين. وهذا ما يرفضه موشيه عميراف، مستوطن في عين كارم الـ«مقتنع» بحقيقة أنّه يسكن في بيت لاجئ والـ «مستعدّ» كبادرة طيّبة لتحويل البيت لمتحف لذكرى النكبة لكنه يرفض عودة اللاجئين.
مقولة السيد المسيح
قال السيد المسيح «قبل أن تخرج القذى من عين أخيك أخرج الخشبة التي بعينك». كانت وما زالت هذه المقولة بجمال وقوة وبساطة موعظتها وعدالتها شائعة بكل الألسن حتى بالعبرية، لكن الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين تشطبها من قاموس الحكم والأمثال أو ربما تلهج ألسنهم بها وتصنع أياديهم عكسها. قبل مدة قامت قيامة الإعلام وأوساط رسمية في إسرائيل عقب الكشف عن سرقة 1500 لوحة فنية من اليهود خلال المحرقة. اليوم استعدت هذه الذكريات وحضرني قول السيد المسيح بعدما زرت قرية عين كارم غربي القدس وهي إحدى القرى المهجّرة منذ نكبة 1948 حيث يبان كيف صار الفلسطيني ضحية من ضحايا النازية. ويشير بروفسور بيني موريس أحد أبرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد في كتابه «حرب 1948» أن شباب القرية المسلحين بقوا فيها، قاتلوا حتى انتهت ذخائرهم واستشهد خمسة منهم فاحتُلت في تمّوز/يوليو 48. وأطلقت بلدية الاحتلال في القدس على الأزقّة والأحياء وبعض المؤسسات والمرافق التاريخية في عين كارم أسماء جديدة كمعصرة عائلة بولس التي تُستخدم اليوم كمطعم «كارما» فيما تحوّل عدد من منازلها إلى كنس.
ويوضح الدليل المختص بالبلدات الفلسطينية المهجرة عمر اغبارية المقيم في قرية واحة السلام المجاورة، أن بيوت عين كارم حجرية ومبنية على الطراز المعماري الريفي الفلسطيني متناثرة بين تلال وبساتين دائمة الخضرة. ويشير إلى أن قصور عين كارم المهجّرة مسكونة اليوم بعدد كبير من الفنانين والمثقفين الإسرائيليين. ويرى بذلك مثالا على الثقافة الزائفة المصنوعة من البلاستيك ويقول إنه حينما تسكن في منزل مسروق أصحابه الأصليون باتوا لاجئين في مخيم قلنديا ستبقى أنت أيضا سارقا حتى لو أخرجت عشرة أفلام تفوز بالأوسكار. من جهة موشيه عميراف أحد مستوطني عين كارم المحتلة هو يؤمن بـ «التعايش» مع العرب مثال على ما يقول فهو لا ينكر إقامته في بيت مسلوب ويستعد لتحويله لمتحف، بيد أنه يعارض عودة أصحابه الأصليين. ويرى اغبارية أن أهالي عين كارم لم يفقدوا لوحة فنية جميلة بل فقدوا قطعة من الجنة وكل شيء من دون ذنب اقترفوه.
عائدون
ومن هؤلاء هشام أبو روزا (67 عاما) وهو من الجيل الثاني للنكبة الذي يستذكر زيارة والده الأولى والأخيرة لعين كارم في 1998 بعد طرده منها طفلا للقدس الشرقية. ويقول أبو روزا لـ «القدس العربي» إنه ما زال يذكر والده حينما زار مسقط رأسه عين كارم وهو يتفقد كل حجر وشجرة في بيته ومحيطه بعدما استأذن المقيمين فيه لدخوله لبضع دقائق وشارات الحرج ترتسم على وجوههم. ويتابع أبو روزا «مهما طال الزمن عين كارم تبقى لأصحابها فقط».
يا لها من بلدة جملة، جمالها أخاذ ، تأسر القلوب، وتدمع العيون لرؤية ما ألم بها ، كغيرها من المدن والقرى الفلسطينية.
انها بلدتي ومسقط رأس والديّ واجدادي، وهذا ما ستخبر به ابنتي ذات الأربعة عشر ربيعا ايضا لو سألتها الآن أو قبل 10 أعوام ،فحب بلادنا ينتقل انسيابا من جيل لجيل ليصل إلى جيل التحرير بإذن الله،، يقيم معظمنا في عمّان وبعضنا في القدس ورام الله وغيرها وكثير في المهجر، لكن عيوننا وقلوبنا ترحل إلى بلادنا كل يوم كما غنت فيروز…