■ يتسم الأدب المغربي بأصوات نسوية – على قلتها- تكابد نار الإبداع ولهيبها الحارق، أسماء قليلة إلا أنها تحاول أن تحفر مساراً خاصاً بها في ظل شبه الهيمنة «الذكورية» على المشهد الإبداعي في هذه الجغرافيا.
يبزغ بالتالي، فجر كاتبات ممسوسات بـ»جنّ الكتابة» الذي يسكنهن إلى النخاع، من هذه الأسماء الأدبية النسائية يشرق اسم كاتبة رصينة احترفت اللعب بكل ما أوتيته من لغة ومطالعة وشعلة الإبداع، تكتب هند لبداك نصوصها السردية بدون الارتهان إلى ما يقع من صخب خارج محرابها/ مكتبتها، فهي تعكف على الكتابة كما يعكف المتعبد على الصلاة. وإن كان مشوارها الأدبي قد استهلته منذ سنة 2010 بأولى إصداراتها القصصية «نحيب الملائكة»، إلا أنها تمكنت من أن تبصم على المسار الخاص بها، الذي ينبع من كونها تجتهد باحثة عن الإعلاء من صوتها، ككتابة متميزة لها أثرها المتفرد، صوت لا يبتغي أي تقليد أو محاكاة أو نقل أو تأثر، بقدر ما يبتغي الإعلاء من جمالية النص لغويا ومضمونا وشكلا.
هند لبداك قاصة وكاتبة تجعل من السرد أسلوبا لاختراق العالم، بمعول الفضول ومصباح الفضيلة، شاقة طريقها بهدوء وبروية مُعوّلةً على ما تتبعه من كتابة متعددة الأصوات والمسالك والمعارج والمدارج، بحذر شديد من الوقوع في منزلقات التأثر والتكبر والغرور، إلا أنها تتجرأ على التأليف غير خائفة من الدخول إلى أدغال اللغة والخروج سالمة غانمة، تشيّد نصوصها على أنقاض ما عبرته من طريق وحدود لم تكن أبدا سالكة وسهلة العبور.
تكاد تكون نصوص لبداك، مقبلة من عالمها الخاص والداخلي، «عالم هند»، ومن حالتها الشخصية والذاتية والمعيشية. إذ أن النص الرومانسي والصوفي الذي تتبعه مسارا لخطّ جلّ كتاباتها هو نص لا ينزاح عن ذاتية صاحبه ونفسيته وحالته الشخصية، والحالة هنا ما كتبه جبران خليل جبران، أو ما أبدعه شارل بودلير أو ما أنتجه فيكتور هوغو، هؤلاء الأدباء المتأثرة بهم هند لبداك على طول مسارها الأدبي، إلى جانب النصوص الفلسفية (فلسفة كانط الأخلاقية بالتحديد) والسيكولوجية والصوفية بالخصوص. وقد استطاعت هند لبدك المزاوجة بين الكتابة باليد اليسرى واليمنى، إن صح تعبيرنا هذا، حيث إنها تكتب باللغتين العربية والفرنسية معا، وإن كانت بداياتها الأولى عربية صرفة. ويظل مسعى الأديبة الدائم، هو نقل حالات الضعف والفشل والحالات النفسية التي تعتري الإنسان، ما يجعل كتاباتها في جلها كتابات سيكولوجية وصوفية في الآن نفسه.
تكاد تكون نصوص لبداك، مقبلة من عالمها الخاص والداخلي، «عالم هند»، ومن حالتها الشخصية والذاتية والمعيشية.
لهذا نجدها في مؤلفها الأول «نحيب الملائكة»، لم تتجه إلى أي معجمية غرائبية أو اللعب على وتر العضلات المجازية والاستعارية، التي تتم استعارتها من خارج النص أو من خارج ما تروم قوله الكاتبة، فهي لا تبتغي أي بحث عن أي تراكيب لغوية مستحدثة، أو الدخول إلى عالم القوالب التجريبية، إذ تستند إلى النص الهادف ذي غاية واضحة، لا يحتاج إلى أي دعائم أو عكاكيز خارجية، أو دوافع لا تنتمي إلى محركه الداخلي. إنه نص يبتدئ وينتهي هادئا ومتدفقا، عامرا بما هو روحاني ونفسي وصوفي وسيكولوجي.
إعلاء الأنا.. إعلان الميلاد:
جاءت المجموعة القصصية «نحيب الملائكة» في حجم متوسط، على طول 210 صفحات، منقسمة إلى أربع قصص وهي على التوالي: «عطر البحر، خمار ودموع، إشراقة أمل، نحيب الملائكة». مكتوبة في غالبها بضمير المتكلم، حيث يغلب السرد المتساوق، ويحضر «السارد الصريح»، إذ أن السارد، الفاعل اللغوي، الذي يعزى إليه تقديم الحكاية إلى المخاطب السردي، يسمع صوته صريحا ومباشرا في السرد. ما يجعلنا نتتبع إحداثيات وجوده في النص، بل إنه في جل النصوص هو مركز السرد وحوله تدور الأحداث. فالسارد في هذه المجموعة يكاد يعرف كل شيء عن الأشخاص، ما يجعله يرسم خريطة نفسية واجتماعية حولها، ضمن سرد متساوق /معاصر، أي أنه يعاصر الأحداث والشخوص، جامعا بين الحكي والخطاب. والمثير في هذه النصوص السردية أن جلها جاءت محكية بلسان الأنثى، خلاف قصة «خمار ودموع»، حيث يحضر السارد بصيغة المذكر، محافظا على الضمير المتكلم «أنا». هذه النصوص المكتوبة بضمير المتكلم، جاءت في لغة واضحة، وملموسة، وبسيطة وحيوية، عامرة بالمناجاة، لديها غاية تتحدث إلينا، للقراء… إنها تجذبنا إلى مناطق قليل الحفر فيها، وأحيانًا مظلمة، وأحيانًا مبتهجة، ولكنها لا تزال راسخة في الواقع، في الحياة نفسها.
البعد السيكولوجي والروحاني:
يهمنا أن نبدأ ونحن نحفر عميقا في متن الكاتبة هند لبداك، بالبعد السيكولوجي في نصوصها السردية، من حيث أنه إلى جانب ثيمات أخرى – كالمعاناة والموت والحرمان والحنين والمرض والخلاص والتديّن والعبادة… سنعود إليها لاحقا- يعد هذا البعد (أي السيكولوجي) هو الوحدة الكبرى والضامة لكل القصص التي يضمها الكتاب، إن لم أقل هو الوحدة العضوية لجل المتون الإبداعية للبداك من نصها أول وصولا إلى آخر رواياتها «إلما أفيوني» Elma mon opium.
تكتب هند لبداك كأنها تلمّم جراحها الدفينة، تكتب بحرقة واضحة وبألم لا تخفف من لهيبه أي جملة، إنه ألم متصاعد مع كل نص، وهذا ما يجعلها نصوصا عاطفية تواقة إلى الهدنة والشفاء والهناء. ونحن نطالع المجموعة القصصية «نحيب الملائكة» يتطلع أمامنا باستمرار الألم السيكولوجي للشخوص التي تنسج نسيج المتون، ما يجعل هذه الأخيرة متحدة من حيث الطرح، ولو أنها متفرقة من حيث الموضوع. يلعب أبطال لبداك قصصهم داخل عالم من الانغلاق على الذات ومحاولة الانفتاح على الآخر، ما يولد خصاما نفسيا داخل أعماق هذه الشخصيات. فتبدو بالتالي كأنها تواقة إلى الخلاص وباحثة عن السكينة، الأمر الذي تجده دائما في البعد الروحاني والتعبدي والصوفي. لهذا نعثر عليها دائما تنتمي إلى مجتمع أو أسرة أو دائرة محافظة، تعتني بالتعفف والفضيلة والتعبد.
تبتكر هند لبداك نصوصها السردية داخل كتابة ملأى بالمناجاة، وليست صدفة أن نجد إحدى أبطال قصصها اسمها «نجوى»، هو الاسم عينه اسم بطلة إحدى القصص في المجموعة القصصية «مدامع الورد». ما يجعلها كِتابة قوامها «التشبث الرصين بالوازع الديني والأخلاقي»، الذي يظل حاضرا باعتباره موازيا للطب النفسي في علاج الأرواح الجريحة والنفوس المنكسرة، التي تعاني منها جل الشخوص، إذ نجد بطلة أولى قصص لبداك «عطر البحر» تقول: «أقبلت مرارا على اقتناء كتب الإرشاد الديني، والتعليم المسيحي قبل أن أبدأ بمزاولة مهنة التدريس، كنت أحرز تقدما في العلاج النفسي، وأحرق المراحل لما وجدت في الاعتقاد من تهذيب الروح، وتضميد لجراحها، سلّمتُ بعظمة التدين لأني وجدت فيه إعجاز الرب».
تكتب هند لبداك كأنها تلمّم جراحها الدفينة، تكتب بحرقة واضحة وبألم لا تخفف من لهيبه أي جملة، إنه ألم متصاعد مع كل نص، وهذا ما يجعلها نصوصا عاطفية تواقة إلى الهدنة والشفاء والهناء.
هذه الثنائية: العلاج النفسي والتدين، هي التي ستظل توّحد بين الشخوص في مختلف الأزمنة والأمكنة والحالات التي تم تركيبها فيها. إنها بالتالي شخوص تصارع الذات والوحدة والانعزالية والكآبة والموت والألم والمعاناة، ولا تتخلص منها إلا عبر الشفاء النفسي والروحي، عبر التطبب سيكولوجيا وروحيا بالتعبد والتقرب من الذات الإلهية، ولأن الإبداع هو تحقيق الجوانب اللاشعورية في حياة الفنان والكاتب، كما يخبرنا فرويد، ولأنه في الغالب لا تخرج النصوص الإبداعية الأولى عما يخالجه ويعيشه المبدع، فتصير هذه النصوص تحقيقا للجانب اللاشعوري للمبدعة هند لبداك، حيث نكاد نلمسها ونلمس شخصيتها أينما ارتحلنا بين الأحداث والأمكنة والأزمنة داخل المجموعة. ولا يخرج كتابها الثاني، المشار إليه عن كونه سيرة ذاتية نفسانية وروحانية، حيث تضعنا الأديبة أمام ما يخالجها من إيمان ومن روحانيات، وما تتصوره عن الحضارة الحديثة، إذ تخبرنا أننا «نشهد عصرا أخذ فيه الكون مجرى الفساد». فتأتي شخوص لبداك باعتبارها شخوصا تحاول أن تعيد للعالم توازنه الروحاني والنفساني، الذي أربكته الحضارة الحديثة، لهذا ترتهن المبدعة إلى حكي قصص حب رومانسية تنتصر للإنسان والروح، فـ»ما أحوجنا إلى متنفس الروح». فتدعونا الكاتبة «بعيدا عن الرؤى التي تجنح إلى المنطق الآلي لسر الوجود أو الخلق، وعن الفلسفات المتشبعة بالمقترب الميكانيكي (أن) نتبصر في صنع الخالق وفي استمرارية الحياة بتناسقها المتفرد وتناغمها العجيب»، في تأثر ملحوظ بما يذهب إليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حينما يقول: «أردت أن أهدم العلم (بما بعد الطبيعة) لأقيم الإيمان»، إذ أنه يعلي من الاعتراف بالفضيلة والذات، وهو الأمر عينه ما تعبر عنه هند لبداك.
تُصوّر لنا هذه الكاتبة قصصا تدور أحداثها في أماكن مختلفة وغير مرتبطة، لكنها تظل تدور في أجواء محافظة لأسرة تارة مسيحية وتارة مسلمة، غاية في وضع رؤية مشتركة بين هذه الأسر المختلفة دينيا، لكنها متحدة من حيث الإعلاء من البعد الديني والروحاني، حيث تجد فيه خلاصها وراحتها، رغم المعاناة والأمراض النفسية التي ما هي إلا نتاج مآلات الحضارة المعاصرة. ونجد «فريدا» بطلة قصة «إشراقة أمل» شخصية تواقة دائما إلى الأصالة والمحافظة، شبيهة بأبطال باقي القصص الأخرى (لي، نجوى…) إنها شخوص تنتصر للأسرة ولحمتها وللمجتمع وحميميته، إذ «لا وجود للفردانية سوى في خيالات الفلاسفة»، كما تخبرنا الكاتبة.
قصص هند لبداك في مجملها قصص سيكولوجيا صوفية روحانية، مندرجة في خانة القصص الواقعية، لأن كل شخوصها هي شخوص تشبهنا، تحيا حياتنا وتكابد أمراضنا الدفينة وتقاومها كما نقاومها.
ويحضر البحر باعتباره فضاء الراحة والاسترخاء وإنعاش الروح نفسيا وتعبدا، بل إنه الملاذ ومكان الإفراغ وإعادة الشحن، شحن الروح وتفريغها من شحنات الاكتئاب والشك والارتياب. فتتم الاستعانة بالبحر في حالة الهيجان لتصوير الروح والحالة النفسية الصاخبة التي تعاني منها إحدى الشخصيات، وهو نفسه الفضاء، حيث ستجد خلاصها «أملها الأخير»، في حبيبها الجديد. فالبحر هو رمز الرومانسية والحالة العاطفية الذائبة والسائلة والدافئة. إنه الرحب حيث يتصالح في نصوص هند لبداك كل من «فرويد ومونتاني»، البعد النفسي والروحاني: «كان الوقت الذي أقضيه على الشاطئ يزرع في أعماقي نبضا جديدا، والكثير من الراحة النفسية، فأكون في قمة انشراحي تماما كما أكون في أوج حزني وانزعاجي».
نظرة عامة حول أعمال لبداك:
يمكن أن نعتبر قصص هند لبداك في مجملها قصص سيكولوجيا صوفية روحانية، مندرجة في خانة القصص الواقعية، لأن كل شخوصها هي شخوص تشبهنا، تحيا حياتنا وتكابد أمراضنا الدفينة وتقاومها كما نقاومها. ولأن هذه المدرسة الأدبية والفنية – أي الواقعية – ترى أن «الموضوع الحقيقي للفن هو الإنسان»، فإن إبداعات كاتبتنا تصب في الأمر ذاته، من حيث أن الإنسان هو عمودها الفقري ومركزها الحساس، حوله تدور الأحداث وبه تبتدئ وتنتهي. فبالتالي كل ما تقوم به هند لبداك هو تصوير الفعالية الشخصية للإنسان، ومنه يغدو العمل الإبداعي «حَلَبَة لمناقشة الأفكار والآراء في الحياة القديمة منها والجديدة»، لهذا نجد نصوصها مفعمة بالحس الخطابي، حيث تخرج الأديبة من النسق السردي إلى حالة الموعظة أو النقاش الفكري لتفنيد ما لا تراه ملائما للإنسان الذي ترسمه على طول نصوصها. لهذا فنصوص لبداك ليست نصوصا انطــــباعية، إذ إنها لم تهاجم أي وسائل فنية رسمية، بل إنها تتبعت خيوط السرد التقليدي وإن انزاحت عنه قليلا، إلا أنها في العموم ظلت مخلصة له، أو بالأحرى لنقل السرد الرومانسي المنتصر للطبيعة والذات الإنسانية.. إذن تكتب لبداك حاملة في يدها مرآة عاكسة، وفي اليد الأخرى إبرة تخيط بها نسيج الحكاية.
٭ كاتب مغربي