حبل الغسيل:
كل الأسرار معلقة على حبل الغسيل، كيف استيقظنا وسكبنا القهوة سهواً، كيف صار للجوارب لون الشاطئ، كيف تسلقت رائحة ورق الدوالي على ستائر المطبخ، وكيف احترقت أطراف القلب وصار الحجر كحلاً وحزناً أسود.
حبل يمتد بين قلبين وشرفتين وقصة حب على الملأ…
حب:
بعيداً عن الشعر وتأويله، ومن منظور الطب تتلاشى مع الحب مناعة الجسد، من دون أن يكون الحب مرضاً. ويحتاج العاشق إلى الكثير من الشجاعة والكرم ليسلم بعضاً من روحه للآخر.. وكما الموت، الحب مباغت وعنيف، والغيرة فيه كئيبة كمقبرة. وكما في الموت، تسليم الروح في الحب مشقة.
موت:
الحياة أحياناً أكثر مشقة من الموت، فالموت لا يؤلم إلا الأحياء الذين فشلوا في تعلم الموت، أما الأموات فيغمضون أعينهم ويمضون. ونادراً ما يموت الإنسان وحده، بل تموت معه ذكرياته وأحلامه والكثيرين ممن أحبهم وصادقهم.
صداقة:
الصداقة هي الحب منزوع الرغبة الجنسية، لذلك تعيش الصداقة أكثر من الحب، مع أن الزمن في الحب سرمدي، فثانية متعة واحدة قد تذهب بالعقل مدى الحياة.
زمن:
ألاعب زمني النرد، أبعثر في لحظة جنون الماضي والحاضر والمستقبل، فقد أعثر وأنا على أبواب الخمسين على أجوبة طفولتي المعلقة.
طفولة:
أتلمس طفولتي كل يوم.. ركبتاي المجروحتان أبداً، وكأنني أسقط كل يوم لأنهض من جديد وأتابع الحلم وكأن العمر بدأ للتو، وأنا ألاعبه الغميضة، وأتلمس خطوات الحياة رقصاً لا مشياً.
رقص:
لا تمنح ظهرك لعدوك وأنت ترقص، فالطعنة الأقسى تأتيك في الظهر، ولا تنسى أن الرقص كالحرب فن وشجاعة. هنا حركة الأذرع كلام، والموسيقى إعراب، والخطوة ريشة رسام… فاصغ جيداً لجسدك وهو يخاطبك، واعلم أنه بلغة الرقــــص وحــدها تنطق الأجساد.
لغة:
اخترع الإنسان اللغة ليعبر عن مشاعره ولكن أيضاً ليخفيها… مع العربية أكون، فهي أم اللغات ومبتدأها، وأحب اسمي الذي يأخذ أول حروفها ويضمه لآخرها، ثم يجعلني بثلاثة أحرف فقط ابنة بارة للغة الضاد، التي مهما هجرتها لا تهجرني.
هجرة:
ما من أحد معصوم من إحساس الغريب، فكلنا في وقت ما ومكان ما غرباء، وفي كل مواطن من مواطني اليوم يكمن غريب قادم. المهم ألا نعتاد حب الأوطان، فالاعتياد هو عدو الحب.
اعتياد وزواج:
عندما تتحول المتعة إلى اتفاق والحب إلى اعتياد، يسمونه «زواجاً»… قال زوجي: «قتلت نملة وخرجت إلى الشرفة، عندما عدت وجدت نملة أخرى تجر جثة النملة القتيلة، ومنذ ذلك اليوم أخذت عهداً على نفسي بأني لن أقتل نملة في حياتي، وإن اجتاحنا جيش من النمل».
سكت زوجي «قاتل النمل» بعدها، فقلت له ببساطة شديدة: أحبك…وكأنني أقولها لأول مرة.
طوابق الحب:
أنا امرأة بطوابق…
القبو: عزلتي وسكوني، أسكنه كثيراً وأغادره عندما أشتاق لنور ما قبل التكنولوجيا والكهرباء.
الطابق الأول: شرفة، ومبتدأ الكلام قهوة بطعم الصباح.
الطابق الثاني: عمل وقيلولة، ثرثرة وأصدقاء.
الطابق الثالث: غسيل الروح وتعزيل الذاكرة.
السطح: هو للسهر مع القمر، غناء، رقصا وفرحا، ثم نوبة بكاء عابرة.
ووحده الحب يحمي هذا البناء الآيل للسقوط من الانهيار.
بكاء:
البكاء هو ما نخاف أن نبوح به لأنفسنا. عندما سمعت بكاءها وأنا أغسل يديّ في الحمام العام، تساءلت عن الحزن الذي انتابها فجأة ولم تستطع تأجيله، تباطأت وأنا أغسل يديّ.
كنت أريد أن أبتسم لها، فأحياناً تكون ابتسامة الغريب عزاءً حقيقياً. انتظرت طويلاً، ولم أتعرف في النهاية إلا على وجه امرأة تشبهني في المرآة المقابلة.
امرأة وفصول:
ربيع: سنة أخرى وما زلت طفلة لا تكبر، وفي كل عام أزرع وردة حمراء في شعري، حكاية من حكايات نيسان الكاذبة.
شتاء: أنا سلحفاة تخبئ رأسها في الكنزة الصوفية، وتدخل عزلتها الطوعية من دون إحساس الوحدة.
خريف: أنا كنغر يحمل جنينه في جيبه وإن بدا فارغاً، كل «أيلول» أتكور، وأعود أم تطفئ شمعة في قالب ميلاد ابنتها.
صيف: الساعة الشمسية تعود للدوران، وأنا سمكة تبحث عن مياه مالحة لتتنفس، وكأنني ولدت خطأ على اليابسة.
سمكة طائرة:
قال لها أنا طير وأنت سمكة، لك بحرك ولي سمائي، نحن عالمان مختلفان وإن انتمينا إلى الأزرق. ابتسمت في سرها، فهي وحدها كانت تعرف أن السمك الطائر مخلوق عجائبي ولكنه خارق، فليس هناك أجمل من سمكة تتجاوز طبيعتها، محاولة الطيران فوق الماء ولو كلفها هذا حياتها.
سر الحياة في تفاصيلها:
العلامة في الكتاب، وعود على بدء القراءة.
ليست رائحة القهوة، بل ملمس الفنجان ورقة حوافه.
ليست حنجرة المطربة ماسية، بل الدمعة التي تلتصق بعينها ولا تسقط.
ليست وصفة الطبخ شهية، بل خلطة الأعشاب في زاوية القدر.
السر هو تلك الكلمة التي سقطت سهواً وفيها كل المعنى.
ليست تصفيفة الشعر، بل الخصلة التي هربت من يد الحلاق ولامست الحاجب الأيسر.
وهكذا نرى بالقلب لا بالعين، وندور الزوايا الحادة.
حلق الحرية:
أعضاء الجسد النبيلة وحدها تأتي مفردة، والقلب سيدها.
جمعت عبر السنين حلقا بكل الأشكال والألوان، فالأناقة قد تكون في لون الحلق وطوله لا في قماش الثوب وعرضه، وفي داخل علبة صغيرة احتفظت بالحلق المفرد بلا شريك، وسميتها علبة المفقودات أو علبة الحكايات الناقصة.
هنا أضعت الحلق عندما ركضت وراء القطار وتركني وحيدة على رصيف المحطة، هنا التقيت مدينة غريبة وتصادقنا، وهنا قصة حب رحل بطلها، وترك لي فردة واحدة من الحلق، وتركني بعدها في شك إن كانت سندريلا أضاعت فردة حذاءها حقاً.
ولكن أجمل الحلق، هو الذي أضعته في مظاهرة للمطالبة بالحرية، واحتفظت بالفردة الأخرى على أمل العثور على الجزء الضائع، أمل يشبه الحرية الضائعة. وكأننا منذ أضعنا الحرية، ليست النصوص وحدها غير مكتملة، بل حياتنا كلها ناقصة.
٭ كاتبة سورية
نصوص غير مكتملة (نرد ورقص وسمك طائر) ….
لعلني لم ابالغ ان قلت .. قلَّما قرأت مقالةً كهذه متصاهرة الألوان كقوس قزح تحمل بين ثناياها كل هذه العوالم من النضج والكمال والجمال بدءاً بحبل الغسيل الذي امتد بين قلبين وشرفتين وانتهاءً بفردة حلقٍ متمردة انتصرت لحريتها في ساحة الأحرار بعد ان تملصت من قيدها وارتحلت غير نادمة ودون عودة .
نصوص متعددة ومنفصلة شكلت حزمة من الادب المكتوب وترافقت لِتكَوّنَ حديقةً بألوان زاهيةٍ ومقالةً بانوراميةً في غاية الروعة لاتصلح للقراءة وحسب بل متنفس للروح وفضاءات للخصوبة والجمال كما تصلح كل من هذه النصوص ان تكون مقالةً متفردةً بذاتها وتحتل المساحة التي تستحق .
شكراً للكاتبة آية وتحسب لها ان تركت لخصوبة الخيال لدينا حرية التحليق لننسج نهاياتٍ لحكاياتها في وجداننا بذات الأدوات التي صقلت فيها نصوصها من جمالية وروعة وأناقة تفاصيل ، وأيةُ تفاصيل ….