حين برز جزء من رأس جلجامش من شفة البئر، وقت صباح مفعم بالجمال طغى عليه الهدوء ببدء شروق الشمس، وانفتاح المسافات الممتدة خارج البئر باتساع بعيد لا يحده النظر، سوى انطباق السماء بخط الأُفق. اتسعت حوله الأرض إلى آماد بعيدة وشاسعة وهو يواصل توثبه للخلاص من عمق البئر، حتى وضح أكثر حد الكتفين. أخرج ساعديه ووضعهما على محيط دائرة البئر مرتكزا بقوة عليهما وهو يواصل هز رأسه بقوة، حيث تبعثرت قطرات الماء العالقة بشعره الكثيف إذ تخطى الرقبة بانسيابية وتلقائية مفترشا ومتجمعاً على دائرة شفة البئر، كالغطاء الأسود الفاحم، انتشر على كتفيه بكثافة. وأول ما وقع نظره على المكان الذي وضع عليه العشبة قرب كوم ملابسه، حتى شعر بيد غليظة تمسك بقلبه وتعتصره بقوة. لم ير أثراً للعشبة تساءل.. أين اختفت؟ لقد وضعتها هنا.. أنا متأكد من هذا. ترك ساعديه تركز على حواشي فتحة البئر، ثم نهض بجسده الضخم إلى خارجه. راح يبحث عن أثر للعشبة، وبينما يدور نظره في الأمكنة المحيطة، لاحظ صخرتين كبيرتين متجاورتين حد الالتصاق مع بعض، وشيء شفاف مبقع التصق على جداريّ الصخرتين من الداخل، بينما شهد أفعى طويلة ومتينة الجسد ترفع رأسها وتحدق به بسعة هي أقرب إلى الشماتة والسخرية منه.
شعر بالإهانة والذل يحيطه جرّاء الخسارة التي افقدته ما كان يحسبه مكسباً، بعد أن تراجع عن تناولها لوحده، بل أكد مع نفسه وقرر ألا يتناولها لوحده ليرهن وجوده ضمن موقع الآلهة في الخلود، بل آثر التأني والوصول إلى حاضرة أوروك والتهيؤ لزراعتها ومنح ناتج زراعتها لشيبة الحاضرة، لكي يستعيدوا ريعان شبابهم ويتمتعوا بما افتقدوه من أمنيات. أحس بالغصة تداهمه ورغبة في البكاء لأول مرة في حياته يضعف هكذا وهو يحدق بالأفعى وهي تُظهر تحديها له بنظراتها الحادّة. حاول التحرك باتجاهها بعد أن رفع عصا غليظة كانت راقدة بالقرب منه، بسطت الأفعى جسدها على الأرض فبانت غليظة وطويلة. بدا جسدها الغليظ الهيئة، وطولها الواضح للعيان وهي تتحرك ببطء شديد، بينما حاول إدراك موقعها، لكنها شعرت بالخطر فانسابت بسرعة على الأرض بليونة، مسرعة إلى الاختفاء وذنبها ذو النهاية الدقيقة يترك أثره على الأرض الرملية اللينة. حاول الانقضاض عليها لكنها ضاعفت زحفها حتى توارت عن نظره تماما، شاعرا بالخسارة التامة والأسف على فعله جراء الاستحمام، ما أفقده أعز ما كان يأمل تحقيقه لشعبه، وقد جاهد من أجل الحصول عليه.
جلس على الأرض منهكاً قلقاً آسفا، تذكر قول جده أتونبشتم وهو ينصحه في العودة إلى المدينة وترك ما يراوده من أفكار خيرة، لكنها مستحيلة عليه لولا توسل زوجه في منحه ما يرغب به. فعل هذا مرغماً كي يُريه الحقيقة ناصعة واضحة للعيان، متذكرا كل ما كان يقوله لخله أنكيدو، هو يطرح رؤاه حول الحاضرة وشعبها المسكين وسلطة المعبد الجائرة وأفعال بعض الآلهة، كذلك تذكر ما قالته سيدوري وهو يزورها في الحانة قبل شروعه في رحلته نحو بحر الظلمات، حيث مكان جده وسط مياه المسطحات المائية خالدا، بعد أن منحته الآلهة الخلود جرّاء إنقاذ الرعايا من غضب الطوفان وصناعة السفينة التي أنقذت الجميع الذين عادوا ليعمروا الأرض من جديد، في الوقت نفسه منح الجد الخلود أبد الدهر. كانت صاحبة الحانة تقدم نصائحها بمثل ما جاء به لسان الجد.. أن املأ بطنك واهتم بحياة شعب أوروك، وتمتع بمباهج الحياة، هو أفضل من البحث عن الخلود. الخلود حاصل بعد تراكم فعل الخير، حيث ختمت نصائحها وهو مصغ إليها مثل طفل يتلقى الأوامر من أُمه أو أبيه.
شعر الآن بالحاجة إلى الوصول للحانة وعدم الذهاب إلى الحاضرة خالي الوفاض مما وعد به رعايا أوروك، مؤكدا صعوبة الطريق الموصل إليها لكنه أصرَّ على اجتيازه. فهو ما زال يحمل نفَس اللإصرار والعزم على إدراك ما يرغب ويُحب. اخترق طريق الأدغال والمطبات الأرضية حتى أدرك مفترق الطرق، حيث بدت بناية الحانة واضحة لنظره. رمى جسده على الأرض كي يأخذ قسطاً من الراحة قبل الدخول إلى الحانة. اقترب من بركة ماء، راح يغرف من مائها ويغسل وجهه وساعديه حد الكتفين ثم غمر ساقيه في لجة الماء الذي بدا سطحه رقراقاً وصافيا بحيث تتضح الحيوات الصغير وهي تسبح في غمره الصافي، تتحول بحرية وتلقائية لا يمنعها أثر يمنعها من التجوال داخل ماء البركة ردد مع نفسه.. آه ما أجمل الحرية. ابتسم لهذا المشهد والخاطر فكيف لهذه الكائنات الصغيرة المثابرة على أحياء الحياة لوجودها والتمتع بحياة آمنة. زاد هذا من رغبته في الوصول إلى الحانة متصورا أنه يجد فيها متسعاً للتفكير بكل ما يدور في رأسه من أفكار الذي يجد في بعضها غموض لا بد من الاستعانة بصاحبة الحانة ذات العقل الراجح والحكمة الصالحة. نهض فور تفكيره بذلك متوجهاً إلى موقع الحانة، وحين أدرك المدخل الرئيسي حيث وجد نفسه وحيداً وسط حيزها المتوزعة على مساحته المناضد والكراسي. حّدق هنا وهناك فربما يلمح سيدوري. وحين تعذر وجودها اختار منضدة في الوسط جالسا باطمئنان مرخياً جسده على ظهر الكرسي شاعرا بازدياد رغبته برؤية صاحبة الحانة. لا يستطيع الإمساك بفكرة ما سوى لقائها والكشف لها عن خفايا نفسه وقلقه، بعد سرقة الأفعى عشبة الخلود في غفله منه، بل في سهو غير مقصود. وحين شعر بحركة مفاجئة ووقع أقدام على درجات السلّم اتضح أكثر بتوالي ضربات الأقدام على الدرجات، أن أحداً ما سوف تتضح معالمه، وتمنى أن تكون سيدوري التي ينتظرها. رفع رأسه وأخذ ينظر في اتجاه السلّم مما أفرحه كثيراً استقرار المرأة التي عرفها جيداً وهي تتفاجأ بوجوده، لم تستطع إخفاء دهشتها من وجوده متجهة نحوه، قام لاستقبالها مما أفرحها ذلك كثيرا مدت كفها لمصافحته. استقر تشابك الكفين فترة زمنية غير قليلة طلبت منه الجلوس بينما استقرت جالسة قبالته، إذ بدت عليها إمارات الفرح من وجوده بعد غيبة أقلقتها، بطول الزمن الذي مرّ بعد رحيله إلى بحر الظلمات. جلسا مطمئنين إلى بعض. أسرعت بالمغادرة نحو المطبخ، وما هي إلا فترة قصيرة عادت وبين يديها صينية الفطور مع إناء الشاي. أخذها منها ووضعها على المنضدة، وهو فرح، وهي تشاطره المشاعر نفسها. كان أكثر ما يبهره هو منظرها الجميل ورشاقة جسدها. قالت مستدركة الموقف الحرج الذي وقعا فيه:
ــ ها أنك عدت سالماً من رحلتك.
ــ تماما وكما ترين.
ــ ولم يبخل الجد في منحك عشبة الخلود.
طأطأ رأسه وهو يجيبها بخيبة وحرج:
ــ فعلاً حصلت عليها ولكن!
استغربت من فعله الذي انعكس على تقاسيم وجهه بإمارات الحزن والأسف، فسألت مندهشة وحائرة:
ـ وماذا بعد وأنت قد حصلت على العشبة وأكيد تناولتها فوراً؟
ـ يا ليتني تناولتها، فقد آثرت أن أحملها معي إلى أوروك وأزرعها في أرض خصبة وأُكثر منها لأقدمها إلى شيبة الحاضرة ليتنعموا بخلود يُليق بهم كالآلهة.
ــ وما الذي حصل، هو فعل خير للجميع؟
ــ حصل أني فقدتها!
ــ فقدتها! كيف؟
ــ دخلت البئر للاستحمام وحين خروجي لاحظت اختفائها، وبعد أن
فتشت عنها تأكدت أن أفعى كبيرة سرقتها. وها أني بلا عشبة!
أخذت سيدوري الدهشة وهي تستقبل مثل هذا الخبر، لكنها بددت دهشتها قائلة:
ــ لا عليك فأنت راعي أهالي أوروك وبإمكانك تعويض ما فقدته. وكما قلت لك
أثناء وجودك في الحانة قبل الشروع في رحلتك إلى بحر الظلمات.
ـ هذا هو الصحيح الذي لم آخذ به.
ـ والآن أمامك متسع من الزمن لتحقيق أمنياتك الطيبة لرعايا أوروك.
تأمل قولها بجدية، وبعد لحظات ذكر:
ـ هذا ما سوف أُحققه في الحاضرة. سيكون لي موقف خاص كملك.
بدت عليه إمارات الحزن التي لم يستطع كبتها، وأخذته دائرة التفكير، بينما حملت سيدروي صينية الفطور، واختفت قليلاً في المطبخ، ثم عادت حاملة فنجاني قهوة. راح يرتشفها بهدوء لاحظته على تقاسيم وجهه بينما انتبه إلى وقع أقدام على السلالم، مستغرباً من وجود شخص لا يعرفه يسكن معها. لاحظت بسعة نظرها ما فكر به. وما هي إلا لحظات حتى فك العقدة هبوط شخص بعد آخر درجة من السلّم، لكن الدهشة بدت متواصلة وهو يرى أنكيدو يهبط ويقترب من المنضدة. اختلط عله المشهد، بدده أنكيدو وهو يحتضنه بقوة، ويضاعف قبلاته على خديه وجبينه. ثم جلسا معاً، كل يقابل صاحبه، بينما سيدوري تتوسط مجلسهما مطمئنة لهذا اللقاء وهي تلاحظ دهشة جلجامش لما رأى، حيث لم يستطع كبت مشاعره وانبرى:
ـ كيف يكون هذا وأنا من أودعك باطن الأرض؟
ـ لا هذا وهم يا صاحبي.
ـ كيف يكون وهماً وأنا من حزن عليك سبعة أيام حتى خرج الدود من أنفك؟
ندبتك وبكيت عليك بمرارة!
ـ هذا وهم، من مثلي لا يموت يا صاحبي، لقد شُبه لك، أنا موجود بوجود
أوروك ورعاياها.
ـ كيف يكون هذا وأنا دفنتك بهاتين اليدين.
ـ وها أنا أمامك كما ترى!
عمهم الصمت ثقيلاً لم يستطع كل منهم الصبر على الصمت الذي هيمن على الجلسة، غير أن سيدوري بحكمتها كما اعتادت في مثل هذه المواقف، انبرت قائلة:
ــ هذا لا يفيد الحقيقة بشيء، فكل ما هو موجود ينطق بالحقيقة وها هو الملك يجلس معنا وإلى جانبه خله أنكيدو. لِمَ لا نعترف بالحقيقة؟
ــ الحقيقة في هذا الأمر مرّة، لأنها تعكس غير ما نعرف.
قال جلجامش. ثم انبرى أنكيدو معلقاً وهو في كامل وعيه للموقف:
ــ الحقيقة مرّة أحياناً لأنها تصطدم بالتصورات الأُخرى خارج منطق الحقيقة
أنا موجود طالما أوروك ورعاياها يعيشون خارج منطق الحقيقة. الكل مــن
رعايا الحاضرة لا يعرفون أسرار ما يدور في واقعهم، لذا فوجودنا يعني محاولة للوصول إلى هدف وجودنا الذي يتركز في حقيقة واحدة؛ لا بد من كل فرد في أوروك أن يعي دوره في التغيير، ونحن أداة مثل هذا الفعل.
انتبه جلجامش لحديث أنكيدو، الذي حسب هو المقصود، وفعلاً أنا كذلك، قال مع نفسه، لكن سيدوري تعجلت الأمر قائلة:
ـ سأحضر الشاي من جديد، وأقول لا بد من الانتباه جدياً إلى ما يجري في الحاضرة من أحداث، خاصة ما حدث سابقاً، حيث تنبغي مراجعته.
بدا الارتياح الذي انعكس على وجهي جلجامش وأنكيدو، بينما عادت سيدوري فرحة لحملها صينية الشاي، ورؤيتها علامات الرضا على كلامها، وما عليهم جميعاً إلى التفكير لما يجب أن يكون لاحقاً.
كاتب عراقي