أذكر ذلك اليوم جيداً عام 1974، حينما كنا في الصف التاسع حيث طلب منا مربي الصف أن نشترك مع طلاب يهود من إحدى المدارس الثانوية في الناصرة العليا في حوار ونقاش مع إسحاق رابين، الذي سيحل ضيفاً على قاعة المركز الثقافي في الناصرة. وفعلاً التقينا، ولكن قاموا بتقسيمنا إلى قسمين: قسم للطلاب اليهود وقسم للطلاب العرب. بعد أن جلسنا واستتب الهدوء قليلاً، دخل إسحاق رابين وجلس مع مربي الصفوف. وفجأة وقف الطلاب اليهود وأخذوا ينشدون نشيد ‘هتكفا’ بصوت عال أذهلنا وأدهشنا، لأنه رفع أمامنا جدار العجز من عدم الرد بتلك اللغة الحادة التي سيطرت على الأجواء. استمرت الدهشة لدقائق وإذ بأحد أبناء صفي يقف ويبدأ بالغناء ‘هزي يا نواعم بشعرك الحرير’ للمطرب اللبناني عصام رجي. وكانت هذه الأغنية مسيطرة على الشارع الغنائي العربي آنذاك. وأخذنا نردد وراءه الأغنية تحدياً للطلاب اليهود. ولم نكتشف أننا من الجيل الضائع البائس إلا بعد أن أخذت الصحف تكتب عن ظاهرة ‘هزي يا نواعم’، التي بينت أن الطالب الفلسطيني في هذه البلاد لا يعرف نشيده الوطني، ولا يستطيع الوقوف قوياً وقادراً أمام الآخر الذي يسلبه يومياً حقه في الأرض والتاريخ والذاكرة والرواية الفلسطينية. وأفرزت ظاهرة ‘هزي يا نواعم’ بعد سنتين، عام 76، يوم الأرض الذي كان نقطة تحول في المجتمع العربي والوعي السياسي. وكان أيضاً الأرضية الخصبة التي أخرجت قادة محليين حملوا المسؤولية الوطنية والتاريخية بقوة وتحدّ. والطلاب الذين لم يجدوا أمامهم إلا ‘هزي يا نواعم’ في استقبال إسحاق رابين شاركوا في يوم الأرض. بما أن الهز لم يعد للنواعم فقط، بل أصبح من اختصاص القادة والزعماء والفضائيات والمفاوضات واللقاءات والقبلات والطعنات من القمم إلى القاع ، وأيضاً أصبح للهز مدارس سياسية ودول خاصة لها بصمات السياسي الفلاني والعلاني، وكل مرحلة لها ‘هزيز’ يتحفنا بوصلات الرقص، وما أكثرهم الآن، لن نكتب عن هز القمم العربية التي خلعت حتى فكرة الهز الخجول واتبعت أسلوب الهز العاري في القمة الأخيرة في الدوحة. لن نهز مع الشعوب العربية وهي تلف وتدور حول نفسها في ميادين وشوارع الإحباط الربيعي، بعد أن وجدت نفسها بين فكي الحقوق الضائعة والثورات المسلوبة والفقر والقادة الذين هم نسخ كربونية من الأنظمة السابقة مع تغير بعض الأزياء. هل سنهز على صوت أبو جانتي- سامر المصري – في المسلسل السوري والذي يقول ‘نحن ما فتنا بالحيط الحيط فات فينا، ونحن ما رحنا ع البيت البيت راح علينا’، لأن المواطن العربي فات في الحيط ولم يعد يخرج منه ويشعر أن البيت الذي كان يحلم به راح عليه والآن هو كتلة اسمنت ، باطون، متجمد داخل حائط سيبنى فوقه طوابق الهموم. حسب التعريف الفني يقال أن اللون الرمادي ‘زينة الألوان’. هكذا عرف عنه لأنه يتماشى مع كل الألوان. وماذا نقول عن سلوكيات وتواطؤ الرؤساء العرب الرمادية ضد بعضهم البعض، هل هو ‘زنى سياسي’، لأن ألوانهم الرمادية لدرجة الفزع أغرقتنا في مستنقع الخوف من الغد والمستقبل، ولا نعرف كيف سيكون شكل الغد مع هذه الوجوه المتآمرة؟! وكيف سيكون شكل الأجيال العربية غداً؟! وهل سنبقى أسرى للذل والخنوع والهروب من الأوطان؟! لا نعرف كيف يتصرف هؤلاء القادة، وكيف يسلكون، وما هي أجندتهم السياسية، والى أين ستؤدي تنازلاتهم؟. لا نستطيع القول إنهم أحرارا يصرخون لأنهم هم أنفسهم يستمتعون بالقيود والعبودية والهرولة وراء الغرب، ولأن قيودهم قد أقفلت وأقفالها لا يعلم بها إلا الله. ومن القادة العرب الذين يوزعون ادوار التواطؤ المخجل إلى الداخل المرتبك لنسأل: كيف نفسر برودة ‘يوم الأرض’ وموته موتاً سرياً؟! من المعيب أن يختفي هذا اليوم عن خارطة الاعتزاز، ويبقى محصوراً في بعض النفوس واحتفال متواضع هنا وهناك!! من المسؤول عن ميوعة هذا اليوم، ودخوله في مناطق التردد الفاضح؟! لا بد أن يحاسب كل من حاول إخفاء هذا اليوم تحت عناوين كثيرة، هذا اليوم كان في ذاكرة التاريخ نقطة مضيئة شامخة موزعة في كل مكان يتواجد فيه فلسطيني. فمن قام بإطفاء توهجه؟! إن حالة الترهل القيادي ستنتج أجيالا مترددة، مذعورة. نحن بحاجة إلى وقفة تسيل منها القوة والكبرياء ويوم الأرض هو الأرضية الصلبة التي ينطلق منها هذا اليوم العظيم، نحن بحاجة إلى هز يوم الأرض كي يفيق ويملأ الدنيا التزاماً بترابه. شوقية عروق منصور – فلسطين