بات واضحاً أن تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق هو مطلب تركي ملح أكثر من كونه مطلباً ملحاً من جهة الأسد. فقد كرر الرئيس التركي إشاراته العلنية إلى هذه الرغبة ثلاث مرات في الأيام العشرة الأخيرة فقط، مقابل صمت مطبق من قبل نظام دمشق ووسائل إعلامه التي خلت من أي تجاوب مع اندفاع أردوغان باستثناء تصريح بشار الأسد حين التقى بالمبعوث الروسي في دمشق وقال فيه إنه منفتح على أي مبادرة على مسار تطبيع العلاقة مع أنقرة. الأمر الذي تم تفسيره من قبل الروس على أن النظام قد أسقط شرطه المسبق المعتاد بشأن وجوب خروج القوات التركية من الأراضي السورية ووقف تركيا دعمها للجماعات المسلحة في مناطق سيطرتها.
من حيث المبدأ يحتاج النظام الذي عانى طوال العقد الماضي من عزلة دبلوماسية خانقة، عربية وإقليمية ودولية وكادت علاقاته تقتصر على إيران وروسيا وعدد محدود من الدول العربية، يحتاج إذن إلى أي باب جديد ينفتح عليه للخروج من تلك العزلة على أمل الحصول على هامش خيارات أوسع تتيح له بعض اللعب على التناقضات والحصول على بعض المكاسب بهدف تعزيز «مشروعه» الذي يقتصر تماماً على استمرار بقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة بصرف النظر عن التكاليف الباهظة لهذا الاستمرار على سوريا التي يحكمها، بما في ذلك تفكك الكيان والمجتمع السوريين وخضوع الدولة لقوى أجنبية وتحولها إلى ساحة لتقاسم النفوذ بين الدول المنخرطة.
وتشهد المرحلة الحالية نوعاً من التنافس بين الدول المشار إليها على فتح قنوات الاتصال مع النظام أو تعزيز العلاقات الموجودة بالنسبة لحلفائه الروس والإيرانيين. وأبرز مظاهر هذا التنافس نراها في استمرار محاولات المجموعة العربية معه على خط مشروع «خطوة مقابل خطوة» الذي تبنته الجامعة العربية، والتهافت التركي على التطبيع الذي تتنافس على «اقتناص» تدشينه كل من أنقرة وبغداد وموسكو، وتذكير الإيرانيين الخالي من اللغة الدبلوماسية له بأن قدر سوريا هو البقاء في إطار محور المقاومة والممانعة المرفق باتفاقية إذعان لتحصيل ديون طهران على النظام التي تبلغ أكثر من خمسين مليار دولار يعمل الإيرانيون على فرضها على الأسد.
غير أن الفوائد المرجوة من التطبيع مع تركيا، من وجهة نظر النظام، محدودة جداً بما لا يشجعه على تسريع عملية التطبيع كما يأمل الأتراك، ففي المستوى الاقتصادي تقتصر هذه الفوائد على رسوم الترانزيت التي قد يحصل عليها النظام من عبور الشاحنات التركية المحملة بالبضائع في اتجاه الحدود الأردنية في طريقها إلى دول الخليج العربي، فليس لدى النظام وفرة في الإنتاج لتصديرها إلى تركيا باستثناء حبوب الكبتاغون المخدرة التي اشتهر بتصديرها عبر الحدود الأردنية وجاءت المبادرة العربية لإيقاف تدفقها كأحد أهم أهداف تلك المبادرة. ومن شأن محاولة استغلال النظام فتح المعابر التجارية لتمرير شحنات كبتاغون مماثلة إلى تركيا أن يؤدي إلى تفجر مشكلة أمنية جديدة مع تركيا هذه المرة وهي الساعية إلى حل المشكلات المعقدة الموجودة أصلاً بواسطة التطبيع مع النظام.
ليس لدى النظام وفرة في الإنتاج لتصديرها إلى تركيا باستثناء حبوب الكبتاغون المخدرة التي اشتهر بتصديرها عبر الحدود الأردنية وجاءت المبادرة العربية لإيقاف تدفقها كأحد أهم أهداف تلك المبادرة
الفائدة الثانية التي قد يسعى النظام إلى تحصيلها من التطبيع مع تركيا هي أن توقف أنقرة عمل المنابر الإعلامية المعارضة للنظام على غرار ما فعلته مع المنابر المصرية المعارضة ثمناً للتطبيع مع نظام السيسي. وهذه أيضاً حصيلة ضئيلة، من وجهة نظر النظام، إذا تحققت، لأن المنابر المعارضة لا يقتصر وجودها على الأراضي التركية، بل هناك منابر أخرى موجودة بكثرة في دول أخرى لا يمكن ابتزازها بهذا الخصوص. وعلى أي حال فالنظام قد اكتسب مناعة تجاه الإعلام والأصوات المعارضة تشبه مناعته في مواجهة مختلف التحديات لبقائه في السلطة، ليس بسبب قوته الذاتية أو مشروعيته المفتقدة بل بسبب انقسام السوريين إزاء الإطاحة به أو تغييره من جهة، وتضارب مصالح وأولويات الدول المنخرطة في الصراع السوري من جهة ثانية.
شاهدت صحافياً موالياً لديه قناة يوتيوب وهو يعلق على خبر وفاة مستشارة بشار الأسد الإعلامية والسياسية لونا الشبل وما تبع ذلك من تكهنات حاولت تصوير الوفاة على أنها «تصفية» لها من قبل النظام أو أحد أجنحته، فيقول في تفنيد هذه التكهنات «المغرضة» من وجهة نظره من خلال محاكمة «منطقية» غريبة تقوم على تأكيد مناعة النظام المطلقة تجاه جميع الأحداث والأنواء العاصفة التي لم تؤثر قيد أنملة على رسوخه وصموده. إذ لماذا قد يقوم النظام بتصفية الشبل وهي مجرد مستشارة إعلامية من السهولة بمكان إيجاد بديل لها من بين خيارات كثيرة جاهزة؟ وما هو أثر وفاتها على ثبات النظام وهو الذي صمد أمام عاصفة «المؤامرة الدولية» التي استهدفت الإطاحة به، ناهيكم عن انعدام تأثير وفاة شخصيات أكثر أهمية كوزير الخارجية السابق وليد المعلم أو كبار الضباط في خلية إدارة الأزمة الذين قتلوا في تفجير المبنى الذي اجتمعوا فيه، صيف العام 2012؟
لندع جانباً أن اعتبار المناعة ميزة إيجابية أو فضيلة هو بذاته مشكلة سياسية وأخلاقية، فما يمكن استخلاصه من كلام الصحافي الموالي هو أن التكهنات «المغرضة» بشأن وفاة المستشارة الإعلامية لم تقتصر على المنابر والأصوات المعارضة في الخارج، بل شارك فيها أيضاً سوريو الداخل الخاضعون لسيطرة النظام، وربما هذا ما دفع النظام إلى الرد على تلك التكهنات، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وإعادة التأكيد على مناعة النظام المطلقة وبقائه في السلطة إلى الأبد مهما حصل.
من هذا المنظور يمكن فهم تباطؤ النظام في التجاوب مع المبادرات الثلاث، التركية والروسية والعراقية، لتطبيع علاقاته مع تركيا، وتفضيله اللقاء مع زعيم المعارضة العلمانية التركية على اللقاء مع أردوغان كخطوة أولى. وحين يصبح التهرب من اللقاء الأخير غير ممكن وضاراً له فمن المحتمل أن لديه «خططاً» جاهزة لعرقلة المضي في هذا التطبيع وإطالة الزمن للإيفاء بموجباته. فهو لا يملك الإمكانات أو الموارد لاستقبال ملايين اللاجئين من تركيا كما تأمل الحكومة التركية، في الوقت الذي تدفع الظروف الاقتصادية الخانقة السكان في مناطق سيطرته إلى البحث عن طرق للهروب من جحيم «سوريا الأسد». ولا يملك الإمكانات العسكرية والأمنية للسيطرة على الأراضي التي يطالب تركيا بالانسحاب منها في الوقت الذي يعجز فيه عن السيطرة التامة على محافظتي درعا والسويداء في الجنوب.
النظام الذي خرج عملياً من محور الممانعة بعد عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، يريد أن يكرس في أذهان محكوميه الناقمين أنه منيع على التغيير. فهل هو منيع حقاً؟
كاتب سوري