مياه كثير تدفقت في نهر فوتوماك منذ نشوء سلاح إرسال دولي، القسم الأكبر من جيوشه وقادته كان أمريكياً. وذلك لصد هجوم كوريا الشمالية على جارتها الجنوبية. كان ذلك صيف 1950، بحكم قرار مجلس الأمن في الأمم المتحدة.
ثمة صورة مشابهة لتدخل عسكري أمريكي برعاية منظمة الأمم المتحدة (أو التحالفات والمؤسسات التي كانت ترتبط بها وتلقت منها التفويض بالعمل) ترتسم عند مراجعة حرب الخليج الأولى في 1991 والنشاط العسكري الأمريكي الواسع في إطار حلف الناتو في البوسنة والصرب في تسعينيات القرن العشرين، وفي أفغانستان على مدى 20 سنة متواصلة من 2001 – 2021.
إضافة إلى ذلك، فإن القوة العظمى الأمريكية لم تكن فقط القوة المحركة والدافعة لإقامة منظمة الأمم المتحدة كجسم ذي صلاحيات عمل وعقاب في ظل فشل عصبة الأمم في تحقيق الاستقرار في المجال العالمي في العشرينيات والثلاثينيات، بل شكلت المحور المركزي المبادر والممول للمؤسسات والهيئات (كالقضائية، الثقافية، الاقتصادية، التعليمية والاستراتيجية) التي نشأت عنها وعملت بروح تعليماتها وتوصياتها.
كان هذا في 2017، بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض لأول مرة، حين بدأ نمط التدخل الأمريكي في المنظمات الدولية يتشقق ويتآكل في عهد ولايته الثانية.
إن إيمان الرئيس المنتخب هو أن مبدأ السيادة أهم بأضعاف من مبدأ الأمن الجماعي، وعلى الأمة الأمريكية فك ارتباطها بالتدريج عن التزامها بحلفائها (بما في ذلك في أوروبا وفي آسيا). وهكذا يمتنع ترامب عن انزلاق خطير إلى مواجهات ونزاعات لا تعرض الأمن القومي للخطر بشكل مباشر وفوري. هذه السياسة تواصل توجيه تفكيره الآن أيضاً، وبقوة أكبر.
استعداد الولايات المتحدة ليس في تأدية دور لاعب المحور بحمل هذه المنظمات، في نظر ترامب، شارة ثمن اقتصادية لا يطيقها الاقتصاد الأمريكي، بل سيكون فيه ما يعطيها الشرعية حتى عندما تعمل بتحيز، وبشكل مشوه تماماً، مثل موقفها من إسرائيل.
محفز لتشديد الخط ضد أجسام دولية
بذات القدر الذي لم يتردد ترامب في الانسحاب من منظمة اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة في 2018 في ضوء نهجهما المعادي لإسرائيل في كل جوانب النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، فمن المتوقع لـ “قرار لاهاي” أن يكون بالنسبة له محفزاً ورافعة في مسار تشديد الخط تجاه هذه الأجسام وتجاه مؤسسات ودول أخرى تعمل بشكل تعسفي ومناقض بشكل قطبي لسياسته في المجال الإسرائيلي – الفلسطيني.
لقد كان رد ترامب الأولي على هذا القرار مؤشراً يبشر بالقادم. فترامب لم يشجب “قرار لاهاي” فحسب بكلماته الحادة للغاية، بل تعهد باتخاذ خطوات عقابية ضد المدعي العام وقضاة المحكمة.
نستخلص من هذه الحالة الاختبارية استنتاجات واسعة عن الرمز التشغيلي لإدارة ترامب الثانية في الساحة العالمية والإقليمية. فإلى جانب نهجه التجاري الذي يرى في الحروب الطويلة عبئاً باهظاً وزائداً على الكاهل الأمريكي وبالتالي ينبغي إنهاؤها بسرعة سواء حرب “السيوف الحديدية” أم معركة أوكرانيا، فثمة بعد قيمي عميق يعكس محبته لإسرائيل وأصولها التاريخية والثقافية والتراثية، في منظومة معتقداته.
هذا البعث يتعاطى بشكل أصيل مع البعد الاستراتيجي، لأن إضعاف إسرائيل ينطوي على خط تعزيز قوة محافل الإرهاب وعلى رأسها إيران. فرغم رؤية ترامب الضيقة لمدى وهامش المصلحة القومية، فإنها تتضمن التزاماً بتحدي هذه القوات التي تشكل تهديداً مباشراً ليس فقط على إسرائيل بل أيضاً على قوات ومنشآت وقواعد أمريكية موجودة في المجال الشرق أوسطي (خصوصاً أن إيران أصبحت دولة حافة نووية).
من هنا، تنعكس بعض الخطوط الهيكلية الأساسية لإدارة ترامب. المركزي منها، الناشئ عن تصميمه لإنهاء الحرب في أوكرانيا بشكل فوري، هو استعداده للتعاون مع زعيم روسيا فلاديمير بوتين، ومحاولة إقامة محور أمريكي – روسي مشترك من خلال هذا التعاون، بهدف كبح تطلعات بكين الإقليمية ومبادراتها الاقتصادية العالمية (لشدة المفارقة، أقام الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر في بداية السبعينيات محوراً أمريكياً صينياً ضد الكرملين).
بصفته زعيماً يتبنى الاتفاقات على أساس الأخذ والعطاء، فليس مستبعداً أن يطلب ترامب من بوتين (بعد إنهاء الحرب في أوكرانيا بالطبع) التأثير بشكل لاجم على طهران ووكلائها، بما في ذلك مستوى التعاون الاستراتيجي والسياسي وكل ما يتعلق بهجماتها المتواصلة، المباشرة وغير المباشرة ضد إسرائيل، مقابل تسليم الولايات المتحدة مقاطع من الأراضي الأوكرانية، بل وحتى استمرار حملة الاحتلال الروسي المحدود في شرق أوروبا.
كانعزالي جديد، مصير أوروبا ومستقبل “الناتو” لن يكونا في مركز وعيه، لذا لن يؤثرا على قراراته. هذه قرارات ستنشأ في غالبيتها الساحقة من تطلعه للانطواء في المجال الأمريكي وممارسة تأثير لاجم وضغط على دول مارقة كإيران، من خلال عقوبات وتهديدات أكثر حدة مما مارسه في عهد ولايته الأولى. وذلك على أمل ألا يكون مطالباً بإخراجها إلى حيز التنفيذ.
بعد ترسيم ترامب في 20 كانون الثاني 2025 سنرى إذا كانت أنماط السياسة هذه ومبادئها ستتحقق عملياً.
البروفيسور أبراهام بن – تسفي
إسرائيل اليوم 25/11/2024