■ تحيط بفعل القراءة على الدوام قدسية تجعل أي اعتراف بعدم القراءة أو بالتقصير فيها مدعاة للعار. هذه القدسية التي لا يمكن بسهولة انتزاعها يجب القول إنها لا تتعلق بمطلب من مطالب فن القراءة، بل بعنادٍ مرتبطٍ بنظرتنا لفعل القراءة وبالأخلاقيات التي كوناها حول هذا الفعل. فكم من مرة أكملنا كتاباً رغم أن نفسنا تعافه، إلا أننا كنا مدفوعين بواجب أخلاقي غامض تجاهه، ففي العمق ليس بحثنا عن كنز دفين هو الذي يدفعنا لإتمام كتاب ما، بل بالدرجة الأولى الالتزام الذي نستشعره اتجاهه ونظرتنا المثالية لفعل القراءة، الذي يغدو كثيراً فعلاً غير قابل للانتهاك.
ينطبق الأمر ذاته على محاولتنا القراءة بدون توقف ظناً منا أننا سنتمكن يوماً من الوصول للرضا الذي نلقاه زيفاً على وجوه المثقفين والأكاديميين، متجاهلين تماماً أن فعل القراءة، كما فعل الكتابة يتغذيان على عدم الرضا الذي يبثانه لا على وهم الكمال الذي نتوقعه. هذه الازدواجية تسبّب لنا غالباً خيبة مريرة حين تنكشف لنا رداءة الكتاب الذي بين أيدينا، لكن رغم الخيبة وثقل الالتزام فإننا نبقى عاجزين عن تجاوز هذه العقبة الأخلاقية، وعن أن نكون شفافين مع أنفسنا تجاه الكتب التي نقرأها. من هنا يأتي كتاب «كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه» لأستاذ الأدب والمحلل النفسي الفرنسي بيير بايار ليهدم الأخلاقيات المرتبطة بفعل القراءة، وليخبرنا أنه ليس من العقل والصحة أن نقرأ كل شيء، إذ لا أحد مهما كرس حياته للقراءة، سيتمكن من الإحاطة ولو بجزءٍ قليلٍ من عالم الكتب.
يرى بيير بايار في كتابه هذا الصادرعن دار كلمات بترجمة مميزة لغسان لطفي، أن فعل القراءة قائم على ثلاثة إكراهات وهي: 1- واجب القراءة 2- واجب القراءة الكاملة 3- واجب قراءة الكتب كشرط أساسي للتكلم عنها. يخبرنا الكاتب أن حالات اللاقراءة لا تُختزل فحسب في غياب القراءة، بل تتخذ أشكالاً متعددة وتشمل الكتب التي لم نقرأها أو التي قرأناها ونسيناها, أو التي تصفحناها ولم نحتفظ منها بشيء، مع التركيز على الدوام على أن ما نتذكره من كتاب بعد أن يطويه النسيان ليس الكتاب نفسه، بل هو مجموع ذكرياتنا وآرائنا التي كوناها حوله.
إن أحد أهم المطالب التي يقتضيها فعل القراءة يتمثل حسب الكاتب في النظرة الشمولية للأدب: نحن نعرف أنه لكي نفهم أي شي فهما متكاملاً، ولا أقول صحيحاً، يجب أن نبتعد عنه قليلاً بحيث نترك مسافة هي مسافة التأمل اللازمة للإحاطة بالشيء بدون الغرق في تفاصيله. هذه القاعدة تكاد تنطبق على كل ميادين المعرفة والسلوكيات، لأنها الوسيلة الأكثر فاعلية لعقد المقارنة وإجراء التأمل وإضفاء نظرة موضوعية على الشيء المراد معرفته. لا تستثنى القراءة أو فعل القراءة من هذه القاعدة، فالقراءة ليست الفعل المستمر لتقليب الصفحات إلى ما لا نهاية، بل هي عملية الخروج إلى ما خلف الكتاب ودونه، وهذه العملية لا تعني في أي حال إلغاء الكتاب، بل فهمه وتقديره القدر الذي يستحق. ففي أي نص كما يقول بايار تبدو «القراءة المنتبهة أكثر مما يجب، إن لم تكن القراءة مطلقاً، عقبة كؤودا أمام فهم عميق وحقيقي لموضوعها».
السمية هنا رمزية بشكل يثير الدهشة. السمية هي الأثر الأول والقاضي للاقتراب من الكتاب أكثر من اللازم.
في بحثه عن القراءة واللاقراءة، يدعو الكاتب القرّاء بالدرجة الأولى إلى الابتعاد عن تفاصيل الكتب والنظر إليها نظرة تُمَوضعها في المكتبة الجماعية ويضرب هنا مثلاً المكتبي في رواية موزيل «رجل بلا صفات» الذي يمتنع عن القراءة حرصاً منه على الإمساك بجوهر الكتاب، الذي يتمثل بالنسبة له لا بمضمونه بل بموقعه من الكتب الأخرى. هذه النظرة الشمولية كما يشرحها الكاتب مبيناً إياها بنصوص لفاليري عن بروست وبرغسون وأناتول فرانس، تهدف إلى استنباط القواعد العامة للنصوص الأدبية لا للنص المفرد في زاويته الأحادية، فما يهم بالنسبة لفاليري وموزيل، ومن خلفهم بايار، هو التفكير بمنطق المكتبة الجماعية لا بمنطق الكتاب المفرد. وعليه فليس الكاتب وحده هو الذي يُهمَش للوصول لقراءة فعالة وشاملة، بل إن النص نفسه يصبح غامضاً وغير ذي أهمية، بحيث يغدو من المهم إزاحته للحصول على تلك النظرة الشاملة، يقول الكاتب: «لا علاقة بين الحديث عن الكتب والقراءة. فالفعلان منفصلان انفصالاً تاماً، وفي ما يختص بي، فقد صرت أتحدث عن الكتب باستفاضة أكبر ومعرفة أعمق منذ أن كففت عن قراءتها، لأن امتناعي عن قراءة الكتب منحني المسافة الكافية – نظرة موزيل الشمولية- لأتحدث عنها بدقة».
ما يجعل تجنب القراءة مثمراً هو أن معرفة الكتب لا تتم فقط عن طريق قراءتها أو تصفحها أو إلقاء نظرة عامة عليها. يخبرنا بايار، أنه يمكننا الحديث بحرية وصدق عن الكتب حتى بدون فتحها مستعينين بالتقييمات العامة وبآراء الآخرين عنها وما يسهل هذه المهمة هو أن أي كتاب ليس فريداً ومعزولاً، بل ينتمي للمكتبة الجماعية. هنا يبدو الكاتب كأنه يحذرنا من الاقتراب أكثر من اللازم من الكتاب ومن خلال مثال «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو يبدو تحذير الكاتب أكثر صرامة ووضوحاً: كل اقتراب من الكتاب هو مخاطرة بالتسمم والموت. باسكرفيل في «اسم الوردة» لم يلمس كتاب أرسطو عن الضحك الذي مات بسببه بعض الرهبان لدى اقترابهم منه ومحاولتهم فتحه متأثرين بالمادة السامة التي وضعها يورج على غلافه. الخطوة التي تَفَوّقَ من خلالها باسكرفيل على الآخرين هي، أنه لم ينزع قفازاته ولم يبلل إصبعه بلسانه وبالتالي لم يقترب أكثر من اللازم من الكتاب. ولكن رغم أن باسكرفيل لم يفتح الكتاب إلا أنه تمكن من التعرف عليه كاملاً من خلال الملاحظات العامة المتشكلة حوله، كذلك من خلال التأثيرات وردود الأفعال التي أثارها الكتاب، وأخيراً من خلال آراء الراهب القتيل فينانسيو الذي سبقه في رحلة البحث وترك خلفه عدداً من العلامات التي كانت المعين الأساسي لباسكرفيل لفهم مضمون الكتاب بدون مسه وتقليب صفحاته.
يحطم بايار أخيراً وهماً آخر من أوهامنا عن القراءة حين يذكرنا أن كل الكتب التي قرأناها بتمعن وانتباه لا تلبث أن تتحول إلى كتب شبيهة بالكتب التي تصفحناها أو قرأناها قراءة سريعة، أو حتى التي لم نفتحها وذلك بفعل النسيان المستمر.
السمية هنا رمزية بشكل يثير الدهشة. السمية هي الأثر الأول والقاضي للاقتراب من الكتاب أكثر من اللازم. بهذه الطريقة التي سلكها يورج لتسميم المتطفلين ضَمَنَ أن تموت الضحية من تلقاء نفسها طالما أنها تصر على انتهاك حُرمة الكتاب والاقتراب منه. هذه الطريقة التي يتمكن من خلالها باسكرفيل من قراءة الكتاب كاملاً، بدون الحاجة لفتحه ليست شيئا بعيداً عن فهمنا لماهية الكتب. فالكتب التي نقرأها لا تشبه في شيء الكتب «الواقعية» التي قرأناها، بل هي «كتب- شاشة» أو «عناصر إبدال» صنعناها بأنفسنا. هنا يشير بايار إلى استحالة الوصول للنص الأساسي الذي يغدو بقراءاتنا المتعددة وعاء لاستيهاماتنا الجمعية، لأن كل واحد منا يُسقط عليه تجربته ومخاوفه وآماله فرديةً أكانت أم جماعية، ويمكننا التثبت من ذلك بأن نقارن بين ذكرياتنا عن الكتب التي قرأناها والكتب الفعلية لنرى أنهما لا يكادان يتشابهان في شيء بعد تداخلهما اللامحدود مع استيهاماتنا وأوهامنا الشخصية.
يحطم بايار أخيراً وهماً آخر من أوهامنا عن القراءة حين يذكرنا أن كل الكتب التي قرأناها بتمعن وانتباه لا تلبث أن تتحول إلى كتب شبيهة بالكتب التي تصفحناها أو قرأناها قراءة سريعة، أو حتى التي لم نفتحها وذلك بفعل النسيان المستمر. وحين نتحدث عن تلك الكتب فإننا لا نتحدث عنها نفسها، بل عن ذكريات تقريبية تُعدَّل وتُبدل وفقاً للحظة التي نتكلم فيها عنها. في هذا الصدد يضرب بايار مثالاً عن ميشيل دو مونتين الكاتب الفرنسي الأكثر تأثيراً في النهضة الفرنسية، الذي كان يعاني ضعفاً رهيباً في الذاكرة لدرجة أنه ينسى ما قرأ وينسى ما كتب، بل إنه لا يتذكر في ما إن كان النص أمامه هو نصه أم نص الآخرين. وكحالنا جميعاً لم تكن الملاحظات والخربشات التي يضعها مونتين على هامش الكتب التي قرأها تفيده إلا بتذكيره أنه مرّ من هنا، بدون أن توصله في أي حال بالكتاب الحقيقي. ويتساءل هنا الكاتب إن كان ممكناً أن نسمي قراءة نسيناها بـ»القراءة»؟ هذه الحالة تقول لنا شيئا قد لا نود سماعه: قراءة الكتب ليس لها الجانب الإيجابي في تراكم المعرفة فحسب، بل لها جانب سلبي يتمثل في فقدان الذاكرة وحتى ضياع الهوية. مثال مونتين الذي يشبه الكثير منا ليس سلبياً بالكلية، فهو وإن يعلّمنا أن النسيان هو صديق المعرفة، لكنه أيضاً يحطم الصورة المثالية للثقافة في أذهاننا: إننا نتعلم وننسى، نربح ونخسر.
«كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه» الذي يبدو من عنوانه كدعوة للخداع ليس في عمقه إلا دعوة للصدق المطلق مع الذات. إنه ليس بحثاً في مديح اللاقراءة الخالصة، والكاتب لا يتوجه بتاتاً للذين لا يقرأون، بل للذين يحملون عبء الالتزام بالكتب أكثر مما يحتمل الأمر والحاجة، يتوجه لمن يُرجئ قول كلمته الخاصة وإظهار إبداعه الخاص بانتظار الوصول للكمال الذي ينشده عن طريق القراءة المستمرة. ومن هنا فبحثه يعتبر دراسة نفسية لا يهمها الخوض في منافع ومزايا القراءة بل يهدف إلى تحرير القارئ من قيود القراءة ومثالياتها نحو تأسيس وتحرر الذات. (يتبع)
٭ كاتبة وأكاديمية كردية مقيمة في ألمانيا
آصال أبسال
/من هنا يأتي كتاب «كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه» لأستاذ الأدب والمحلل النفسي الفرنسي بيير بايار ليهدم الأخلاقيات المرتبطة بفعل القراءة، وليخبرنا أنه ليس من العقل والصحة أن نقرأ كل شيء، إذ لا أحد مهما كرس حياته للقراءة، سيتمكن من الإحاطة ولو بجزءٍ قليلٍ من عالم الكتب/..
هذا الكلام /الكلام الذي يبدأ بكلمة «ليس»/ عادي جدا وبديهي جدا . ولا أعتقد أن بيير بايار عناه بهذه البساطة وهذه البداهة . ذلك لأنه لو عناه بالفعل كذلك لكان الجواب الأكثر أهمية وحقيقية وإلحاحا وعمقا أيضا هو على النحو التالي.. /على المرء والمرأة أن يقرآ كل شيء متاح لكل منهما في الواقع التجريبي المحيط بكل منهما/.. !!
وكا ما جاء بعد هذا الكلام في المقال نفسه يؤكد هذا الجواب من زوايا متباينة.. !!
مقال جدير بالقراءة…وأقف عند عبارتك : (وكحالنا جميعاً لم تكن الملاحظات والخربشات التي يضعها مونتين على هامش الكتب التي قرأها تفيده إلا بتذكيره أنه مرّ من هنا ).هو المرورمن هنا للقاريء / الإنسان يشيرإلى التفاعل بين الزمان والمكان وإلا لا قيمة للأشياء من دون هذه المرور.أنما الشيء الذي لم يذكرفي المقال أنّ من أخلاقيات القراءة ( وهي الأهمّ من الكتابة ) أنّ فعلها يحرّك الراكد في اللاشعورلينقله إلى فعل ظاهرفي الشعور( الإلهام ) ليتحوّل عند بعضهم إلى منتج جديد للكتابة من ( الأنا ) ثمّ إلى منتج جديربالقراءة إلى ( نحن ).وبذلك تصبح القراءة ما لا نهاية…وننتظر: ( يتبع )؟ شكرًا للكاتبة الأنيقة اللفظ ؛ الرشيقة المعنى ؛ المليئة بالصورالدسمة.
عنوان جميل (نظرة على أخلاقيات القراءة) وأحب أن أضيف له (الفتوى وإصدار أحكام محكمة بدون إحاطة بالموضوع، والحجة عبالي، أو تنفيذ لأوامر المسؤول عن صرف الراتب في الدولة/الشركة/الأسرة)
ومن هذه الزاوية نفهم أسلوب دلوعة أمه (دونالد ترامب) في المفاوضات مع أي دولة كالصين وإيران بل وحتى الكيان الصهيوني وليس فقط السلطة الفلسطينية وأخيراً مع أفغانستان والهند والباكستان على أرض الواقع،
فهل هذا منطقي أو موضوعي أو مقبول قانونياً، أم هو التطبيق العملي للفوضى الخلاقة، ديمقراطية استفتاء البريكست، للخروج من الإتحاد الأوروبي ونتائجه في عام 2016؟!??
??????