لم ألتفت إلى الشاب الجالس بجنبي في الطائرة. أتى متأخرا، وكنت قد انغمست في القراءة. بعد حوالي نصف ساعة من الاختلاء بهاتفه الجوال، بادرني بالسؤال. ليس عما كنت أقرأ، وإنما عن المؤشر، تلك الشريطة التي تؤشر الصفحة التي تنتهي إليها القراءة. فقد كان الكتاب بالفرنسية، أما الشريطة فقد لاحظ أنها تحمل شعار جامعة أمريكية. أعلمني الشاب الأمريكي أنه تخرج العام الماضي في مجال إدارة الأعمال وأنه يواصل الدراسة الآن في جامعة مدريد. قال لي إنه استمتع باليومين اللذين قضاهما في تونس العاصمة، فهو لا يحب المنتجعات السياحية، بل يفضل زيارة المدن العريقة وبلداتها القديمة. وبدا من كلامه أنه مهتم ببلدان إفريقيا وآسيا وأن له معرفة بلبنان، كما بدا من ملامحه أنه من أصول أوروبية شرقية. وقد أكد لي ذلك عندما ذكر، عرضا، أن والديه هاجرا إلى أمريكا فرارا من نعيم «الديمقراطية الشعبية» في بولندا الشيوعية. قال لي إنه لاحظ في كل بلدان العالم الثالث التي زارها أن الصين تغزو الأسواق وتستميل الأنظمة وأن نفوذها في تعاظم مستمر. ثم سرعان ما مرّ الشاب إلى «إعلان الألوان» كما يقول التعبير الفرنسي: فقد اتضح أنه من المعجبين بترامب وأنه على يقين بأنه كان الأجدر بالفوز بانتخابات الرئاسية العام الماضي لولا… المؤامرة التي حاكتها النخبة العميقة (على وزن الدولة العميقة) سدا للطريق أمام هذا اللامنتمي المتمرد على النظام والأعراف والنخب، وحرمانا له من حقه المشروع في تمثيل الأغلبية المظلومة التي لا صوت لها سواه.
بعد ذلك قال لي إن بايدن سياسي مخادع منافق لا يحب السود، ثم بادرني بالسؤال: ألا ترى إلى جورج سوروس كيف يسعى إلى السيطرة على العالم؟ قلت: وهل شبكة منظمات «المجتمع المنفتح» الناشطة أساسا في مجال الحقوق المدنية والإعلام البديل، كافية لتمكين أيّ كان من السيطرة على العالم؟ قال وماذا عن الصهيونية؟ قلت: تقصد «بروتوكولات حكماء صهيون» التي أثبت مراسل جريدة التايمز في القسطنطينية (إستنبول) فيليب غريفس عام 1921، أي قبل مائة عام بالضبط، أنها من فبركات الاستخبارات الروسية في أواخر العهد القيصري؟
كلما تحدى أفهامنا شيء فزعنا إلى مشجب المؤامرة نعلق عليه حيرتنا وخيبتنا، ألسنا حتى اليوم نسمع من يقول ويكرّر، في الشارع والإعلام، بأن انفجار الثورات الشعبية ضد الاستبداد إنما هو أمر دبّر بليل؟
رد بأن هذا ما يعتقده كثير من الأمريكيين. قلت: أنا عربي، وإنشاء دولة إسرائيل الكولونيالية الغاصبة التي تدعمها بلادك كل الدعم إنما يمثل تهديدا وجوديا لأمتي العربية التي حكم عليها هذا الظرف التاريخي الحالك الذي نعيش اليوم بالوهن والتشرذم، بل وبخطب ودّ العدوّ وتوهّم أن لا استقرار ولا ازدهار إلا بالارتماء في أحضانه. لكن أن تكون دولة إسرائيل عدوا وجوديا وحضاريا ليس سببا لاختلاق الأباطيل ولا لتصديق ما يختلق منها. فالحقيقة كافية بذاتها. لم يعلق الشاب اللطيف، لكنه سرعان ما سأل: وماذا عن بيل غيتس؟ هل تصدق أنه يفعل كل ما يفعل في مجال الأعمال الخيرية ومكافحة الأمراض المعدية وتوفير اللقاحات في إفريقيا، هل تصدق أنه يفعل كل هذا سعيا للخير وحبا للإنسانية؟ أليس له أجندة شريرة خفيّة ومآرب أخرى؟
لما لمح نظرة الاستغراب في عينيّ، أضاف: …ولو أن الواقع أن مارك زوكربرغ هو أخطر رجل في العالم. سألت: ألأن شبكة فيسبوك تتحكم في العقول والأفئدة ولأن أنظمة الاستبداد تستخدمها للتأثير في الناخبين، مثلما فعلت روسيا في انتخابات 2016 التي فاز بها ترامب؟ أجاب: لا، بل لأن فيسبوك هي التي مكنت بايدن من الفوز في 2020! قبيل أن تحط الطائرة في مدريد ساعدني في ضبط هاتفي الجوال وأسدى لي نصائح بشأن حسن الاستخدام وادخار البطارية، ثم قال إنه كان من الناشطين في حملة أحد المترشحين الجمهوريين إلى الكونغرس عن ولاية ويسكونسن. وأكد لي أن الجمهوريين سيفوزون بالرئاسة عام 2024، إما بفضل ترامب، وهذا هو الأرجح في رأيه، أو بفضل مرشح آخر سوف ينجح في استمالة السود والأقليات والنساء إضافة إلى أغلبية البيض.
هذا شاب جامعي نابه يتقن اللغتين العالميتين، الإنكليزية والإسبانية، ويطوف في البلدان ويهتم بمتابعة أحوال السياسة والاقتصاد. ورغم ذلك فهو يؤمن بنظريات المؤامرة في تفسير الظواهر القومية والعالمية. فهل بقي إذن من مجال لاستغراب ازدهار جمهرة «كيوانون» المناصرة لترامب والتي تروج لنظريات تآمريّة شاذة وأخبار زائفة عن الساسة الديمقراطيين وجائحة كوفيد ولقاحاتها والمظاهرات المناصرة للسود؟ ثم هل هنالك من يضاهينا، نحن العرب، في هذا المجال: أليس الواقع أنه كلما تحدى أفهامنا شيء فزعنا إلى مشجب المؤامرة نعلق عليه حيرتنا وخيبتنا؟ ألسنا حتى اليوم نسمع من يقول ويكرّر، في الشارع والإعلام، بأن انفجار الثورات الشعبية ضد الاستبداد إنما هو أمر دبّر بليل استخباريّ غربي ـ صهيوني؟
كاتب تونسي
يجب دراسة المؤامرة في سياقها التاريخي فالبشرية قبل آلاف السنين كانت تشك بالمؤامرة من قبل الالهة التي تسبب لهم الحرائق مثلا فيسجدون لها ويقدمون القرابين او يرمون بحبائل المؤامرة على قوى خفية مثل الجن والشياطين وكانت الملوك والاباطرة مع الشعب يسجدون لتلك القوى الخفية لكي تتوقف عن ايذائهم، اما نظرية المؤامرة الحالية ومفهومها وصبغها بالغرب لأنها نشأت مع نشوء الحضارة الحالية وارتبطاها بوجود قوة خفية بشرية كالماسونية مثلا ،وحتى لو انتهت الحضارة الحالية ونشوف حضارة أخرى ستبقى نظرية المؤامرة وتأخذ شكلا اخر بالتأكيد لأن الصراع الحقيقي على الأرض هو بين الحالة المثالية والحالة الزورية للعقل البشري