ما يشغل بال النظام السلطوي العربي بأشكاله القديمة، أو نسخه الجديدة التي تنازع موجة ربيع الشعوب العربية واحتجاجاتها، الباحثة عن الحرية والتخلص من ربقة الاستبداد والفساد، كان دائما السيطرة على المجال العام، وخنق التعددية السياسية، بإطلاق عملية قمع واسعة ضد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وتهميش المثقفين وتدجين معظمهم، بجعلهم أبواقا للدعاية والتبرير، وسجن القلة الباقية من المتمسكين بالفكر النقدي الحر.
ومن السهل استحداث أحكام تشريعية وتطويع القوانين لخدمة مصلحة النظام، ومأسسة العقيدة السلطوية الجديدة، كي تصبح جزءا لا يتجزأ من أجهزة الدولة، التي يسهل عليها تطويق أطياف المجتمع تحت مجهر الرقابة والإشراف، واتباع استراتيجية تعميم إعلامية مقرفة تبرر كل أفعال الرئيس وتجعله «المعبود الطيب» بالاصطلاح الفرعوني القديم.
وهو مناخ يبيح المحاكمات العسكرية، ويستسيغ القمع والتسلط بقوانين الإرهاب وحالة الطوارئ المؤبدة للحالة العربية. وبهذا المعنى أضحت الحياة السياسية بمثابة المنفى الداخلي، وشُلت الفاعليات المدنية، وإن حدث انفتاح ديمقراطي فإن النظام الحاكم يفعل كل ما يستطيع لإعادة الوضع كما كان. ولعل ما يجري في مصر أبرز مثال ضمن واقعية سياسية من هذا القبيل. كما يلاحظ المراقبون ما تقوم به الأجهزة الأمنية في العراق من دفع المواطنين بعيدا عن الاحتجاج السلمي، وتجريم المظاهرات، ويُراد للبنان المسار نفسه أمام انسداد الحلول، وتعنت الطبقة السياسية ورفضها التعاطي بجدية مع مطالب الحراك الواضحة. وقد يكتمل المشهد اتضاحا في إيران، خاصة مع قطع الإنترنت وعزل الشعب عن العالم الخارجي. وحين ندرك أن التفاصيل الكامنة وراء انتهاك حقوق الإنسان، وقمع الحريات في كل هذه البلدان يعود للسرديات المتهافتة حول التآمر الخارجي، واستهداف البلد، فإن الأمر حينها لا ينذر بوجود أزمة سياسية فقط، بل بمراكمة خيبات الحكم ومحاصرة حق المواطن في الاختيار الحر، وتأبيد حالة الأسْر المجتمعي، ورفض الرؤى البديلة، وتكبيل الفضاء العام، وإجهاض أحلام الناس وآمالهم في أوطان حرة ومواطنة كريمة.
ما يجري اليوم من ثورات شعبية وأشكال رفض هو معركة استعادة وطن وطموح شعب في بناء دولة تحترم الإنسان
لم تُحقق الأنظمة السلطوية الرخاء الاقتصادي، ولم تحسن الظروف المعيشية، وبقيت محكومة بهواجسها الأمنية التي راكمتها لعقود، وهي تجاهر بها الآن كأكثر اللوازم الخطابية حضورا على ألسنة المسؤولين، على نحو تأكيد أن تحديات الإرهاب تُعقد مسألة التوفيق بين توفير الأمن والحريات المدنية، وهو في الحقيقة تلفيق علني، ترسخه النخب المتحالفة مع الأنظمة القمعية لحمل الناس على الرضا بواقع من هذا النوع، وتأييد النظام، وتقبل ممارسات العنف والانتهاكات اليومية لأجهزة الدولة، وعدم التفكير في التموقع ضمن المعارضة، أو صياغة البدائل. وهذا التعميم يكثر في دوائر الخطاب الرسمي للنظام الحاكم، وفي المنابر الإعلامية الموالية، والصالونات «الثقافية»، حيث ينساب الحديث عن نظرية المؤامرة والأعداء المتربصين بالبلد، وتنتعش أجواء التخوين للرأي المخالف.
وتُعد الاستكانة لمثل هذه النماذج التفسيرية السهلة، سبيلا لتبرير اهتراء الاقتصاد الوطني وغياب التنمية، وبذلك يجد الفساد والاستبداد مظلة تحجب خطاياه، وتخفي جرائم منتسبيه. ولا يُسمح بالحديث عن الاخفاقات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية ولا تتحمل السلطوية الحاكمة أي تصريح أو تلميح عن مظالمها وانتهاكاتها وفشلها الذريع. بمثل هذه الممارسة يفقد الناس ثقتهم في مؤسسات دولتهم، ومن السهل جرهم إلى العنف، عندما يُحاصر حراكهم السلمي ويُقمع بالرصاص. وكأن المطالبة بالديمقراطية وتنقية مشهد الحكم من شوائب الطائفية السياسية، وفساد المسؤولين جريمة وخطيئة كبرى. ومن يدعو لذلك تطاله حملات التشهير وتوجه إليه التهم بالخيانة والتآمر مع «أعداء الأمة»، وتصطنع وسائل الإعلام الموالية للنظام بيئة تسمح بترسيخ الكذب والمغالطة كحالة متكررة للاستلاب والتوجيه وقبول الواقع كما هو، باعتباره الأصح وخلافه الفوضى والتدخل الأجنبي.
الدولة القُطْرية لم تستطع أن ترتقي إلى مستوى دولة وطنية جامعة، تقبل الاختلاف والتعدد، لتشكل في مرحلة لاحقة عنصرا إيجابيا في التكامل العربي، على اعتبار أن الأمة واحدة تعيش التحديات ذاتها. فهل نتفق مع أدوارد سعيد حول عدم جدوى «قول الحقيقة إلى السلطة»، لأن السلطة أولا تعلم الحقيقة، فضلا عن أن السلطة هي الجهة المخطئة التي يوجه إليها الكلام. والأصح أن نقول الحقيقة للشعب الذي يدرك بدوره الكثير من الواقعية السياسية، وهو الذي سوف يفكك مثل هذه الأنظمة السلطوية، ويحد من قوتها؟ أم أننا لا نعلم الحقيقة وعلينا فقط أن نلتحق بالذين يرغبون في الالتزام بالحد من قوة السلطة ونصغي إليهم، فهم يعرفون دائما أكثر مما نعرف؟ وعلى الرغم من أن الإدراك المعرفي يفترض وضع مساحة للتمييز بين الدولة والسلطة، وتحديد معايير كل منهما، فإن الخلط المفهومي مازال قائما على نحو نشر الاعتقاد بأن انهيار السلطة أو إزاحتها يعني انهيار الدولة، وهي سردية تلتزم بها منابر التبرير السلطوية، ومؤسف أنها قابلة للتحقق عندما يغيب الوعي الوطني الجامع ويحل محله الاحتراب في حال الإطاحة بالأنظمة، لأن الحكام العرب لم يبنوا دولا حقيقية تبقى قوية وقادرة على حماية نفسها والحفاظ على مكتسباتها، حتى عندما تنهار السلطة، وعوض بناء دولة متماسكة ذات سيادة كان هاجسهم الوحيد على الدوام هو بناء السلطة وإحكام قبضتها على الناس وفرض هيمنتها على المجتمع.
ومن الطبيعي أن لا يتبنى «الكارتيل» الحاكم في أكثر بلدان المنطقة، مفهوم المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية، والغلبة تكون لرابطة المصالح والانتهازية السياسية والحكم الاستبدادي عوض تكريس الحقوق العامة والحريات الفردية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والشفافية في التسيير. وما يجري اليوم من ثورات شعبية وأشكال رفض هو معركة استعادة وطن وطموح شعب في بناء دولة تحترم الإنسان، ولا تُختزَل في طائفة أو مذهب أو قبيلة أو حزب، ولا وجود فيها لمقولة أقلية وأغلبية، بل الجميع متساوون ومواطنون لا رعايا. والمواطنة بهذا المعنى تُشرع الاختلاف لا الخلاف، ولا تقبل تمييزا في الحقوق لفئة على حساب أخرى، وفق اعتبارات الانتماء الإثني أو المذهبي، وتعمل على توليف الهويات الفرعية وتشكيل التجانس الوطني والتعايش الهوياتي.
كاتب تونسي
صدقت ورب الكعبة