بعد عقدين ونصف العقد من سيطرة البشير على السلطة في السودان ظل السؤال المركزي الذي يلح ويؤرق فكر السواد الأعظم من المجموع السوداني في الداخل والخارج، وخلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخه الوطني، هو كيفية التخلص منه أو قل هو ونظامه، لذا نجد أن المجهودات الوطنية السياسية والشعبية الجماهيرية والعسكرية السودانية كلها تعمل في دينامكية عنيفة أو مرنة، وفي أحايين أخرى تسير وتمضي بهما معا في عمل منتظم، أولى انعكاساتها المتفق عليها أنها أضعفت كثيرا من مراكز قوى نظامه، وقللت من وحشيتها، وفي ذات الوقت أخلت بالجهاز العصبي المتحكم في صناعة قراراته وإدارته للدولة التي أصبحت عبارة عن فجوات لا رابط بينها.
وضمن هذا السياق، أي مراجعة سريعة لترمومتر نظام البشير، يتبين بالقطع أن واقعه بالأمس ليس كاليوم، والمؤكد أن يوم غد ليس كسابقه وهو اليوم الموعود الذي من المفترض أن تتحق فيه الإرادة الجمعية للشعب السوداني، رغم حالة الاستثناء الذاتية الدائمة التي علق بها الرئيس نفسه ومعه كل الوطن لرفع سقف تحوطاته من أي عمل جماهيري ‘عدائي’- بالضرورة- للإطاحة به ونظامه بعد خمس وعشرين سنة كاملة، تمكن خلالها من تشييد أكبر إمبراطورية له في أفريقيا عبر ثالوث ‘العصبية والمال والسلاح’. والمتفق، على نطاق واسع، أنه لم يبن حكما مثاليا ولا أخلاقيا ولا إنسانيا، بقدر ما سيطر على نظريته في الحكم منهج الكراهية والحقد ضد الشعب السوداني وتاريخه وجغرافيته، حيث يرى في الشرعية الوطنية القائمة للإطاحة به عمل الضالين والشياطين، في حين أن السودانيين يريدون أن يتحرروا من انتهازية السلطان ‘الضال’، كما يقول شاعر سوداني ساخر يعيش في المهجر.
إشكالية الإطاحة بالنظام السياسي الحاكم لم تعد مسألة رغبات ذاتية لتيارات حركية ثورية أو جماعات سياسية رافضة لحكم البشير، بل تعدت ذلك لتصبح إرادة وطنية جامعة، تحولت معها إلى احد أهم المفاتيح الوطنية لغاية الترتيب السوداني الجديد القائم على معايير عقلانية واقعية وليست طوباوية، كلها أهداف وقيم إنسانية عليا أضفت مشروعية خاصة للإطاحة بالجنرال’الضال’، والأمر هنا ليس في تلك المشروعية فقط، وإنما في الكيفية، هذا ‘الكيف’ هو الشغل الشاغل لجمهور الناس السوداني، بل المعضلة الحياتية التي يطرحونها في استعجال وتكرار، حيث لا تخلو أي محادثة أو مؤانسة أو تجمع سوداني، من الإشارة إلى سؤال الهم العام وهو كيف يمكن الإطاحة بالبشير؟ هذا التخلص شكل ‘ظاهرة’ شعبية في الذهنية الجمعية للشعب، وبمرتكز أكثر أهمية منه وهو الوعي العميق بهذا المدخل لأجل تسوية أوضاعه الحياتية المستقبلية، وأولها تحرير ذاته من هجوم تاريخي ‘وقح’ وقع عليه ليعيق سيرورة حراك تقدمه ونهضته التي وضعت فيها طبقة البرجوازية العسكرية الإسلاموية فيتو ‘قف’ تجاه أي منحى لخلاص الوطن منهم .
هذه الظاهرة الشعبية يفسرها موقف شعبي إبان صدور قرار محكمة الجنايات الدولية وخروج البشير في سيارته الرئاسية إلى القصر الرئاسي، وما يتبع الزفة الرئاسية من إغلاق لكل الشوارع المؤدية من وإلى الشوارع التي يمر بها الموكب، عندها عرف الجمهور السائر على جنبات الطريق أن هذه ‘الجوطة’ (الإزعاج) هو موكب الرئيس، فرفع المارة أياديهم مع تحريكها شمالا ويمنة ففسرها الرئيس سريعا وهو في عمق ورطته وقتئذ بأنه تأييد جماهيري واسع له، ليصرح بهذا الموقف لقناة عربية مرموقة، فإذا بأحد المارة وكان حاضرا هذا الحدث، فقام مصححا للرئيس قائلا له إن شعبك وأنا أحدهم وقتها ‘كنا نودعك ولا حسرة بل فرحا إلى الجنائية فتشابهت عليك البقر بين الوداع للخلاص والتأييد’ إنها الديكتاتوريات حتى المجرمة منها تزعم أن لها تأييدا في إجرامها وهو ما لا يقبله العقل السوي.
نعود إلى سؤال الكيفية، أي الإطاحة بالاستبداد السياسي والثقافي والإجتماعي والاقتصادي والايديولوجي، حيث يتراءى واضحا أن الإطاحة بالبشير على المستوى النظري ليس محل اختلاف بين القوى السياسية المتنافسة أو حتى تلك التي لا تتوفر على وثوقية من الدرجة العالية فيما بينها، وإلى المتحالفة عبر تعاقد ضمني لحماية التمركز أو لتبادل العطايا مع البشير، الذي وصفه أحد زعماء التقليد السياسي الديني بأنه ‘رجل طيب وقلبه كبير’، وهو نفسه رفع راية ‘سلم تسلم ولا تفاوض’ في إطار معادلة الثنائية القديمة المتمثلة في العسكر أو ديمقراطية ‘الحيشان’، وذلك قبل بروز قوى حراك التاريخ السوداني الذي أخل من وجهة نظرهم بالتراتبية السائدة في الماضي، هذا المستوى النظري يتسم في كونه فضفاضا، مما دفع ببعض هذه القوى المصنفة في التاريخ السوداني بأنها القوى التاريخية الوطنية الديمقراطية، صاحبة التفسير والتفصيل المطلق لهذا ‘التاريخ’ و’الوطن’ و’الديمقراطية’، استطاعت أن تحول، بل تفرغ الإطاحة من شكلها المفاهيمي وسياقها المعرفي الذي يؤطر فعلها التطبيقي، فعمدت الى امتهانها كخطاب سياسي نفعي أكثر من كونه فعلا مطلوبا ومعبرا عن إرادة وطنية، وذلك لغاية تحقيق مكتسبات أو رفع درجة سقف رأسمالها السياسي والتجاري، مع الحكم صاحب الثروة والمال، فأخلت باستحقاق الإطاحة كفعل جماهيري عام له مغزى ودلالات وأسس ومكونات، وله أيضا ما بعده، وهذا هو بيت القصيد، بل مصدر التخوفات والترددات لهذه القوى التي ترى أن أي فعل انتقالي لا يؤهلها لاسترداد زمام المبادرة والتموقع من جديد للتقرير والتغرير في شأن عامة الشعب السوداني لا معني له، وليس هناك ما يستدعي العمل من أجله ما دامت موجهات الخارطة السياسية والاجتماعية اختلفت وتريد أن تسحب من الرصيد التاريخي لتلكم القوى، وفي ظل وجود قوى أخرى نتجت جراء الخلل الوظيفي لسلطة التمركز الضالعة في كل إثم سوداني. هذه الاندفاعات الجديدة قد تمثلها الجبهة الثورية السودانية وآخريات في عمق المجتمع السوداني العريض، فكانت الهوة والاستقطابات والإقصاءات مستعملة كل المناهج والمدارس، بما فيها مدرسة الإبادة خصوصا، وفي مجموعها ترى أن دولة البشير أفضل وأرحم من الجبهة الثورية التي اشتغل عقل التمركز في إقصائها بخطابات سياسية ذات حمولات مختلفة ومؤثرة ضمن منظومة الوعي القبائلي والجهوي والإثني للسودان، كشأن أغلب الدول الأفريقية والعربية، لتضع مسألة الإطاحة بالبشير رغم اكتمال كل الشروط في محط إشكالية إلتفافية، بل وضعتها في تساو ممنهج مع الوطن السوداني وديمومة استمراره كخطاب فاضح ومكشوف ونمطي تجاوزته الأحداث. والغريب أن عقل التمركز لا يريد عنوة مجاراة تطور مجتمعه، بل يجره إلى الخلف وباستمرار، لأن هذه القوى التي تمثل أعمدة البرجوازية السياسية والطائفية، وجدت نفسها بل مصالحها في الظرفية السياسية الحالية مع الطائفية الإسلاموية الجديدة، وألا مانع لديها من ‘إعدام’ كل القيم السياسية والقانونية، التي نادت بها في السابق من ديمقراطية وحريات وحقوق إنسان ودولة الحق والقانون والمواطنة والدولة المدنية، والتي طالما تاجرت وتتاجر فيها، وبالتالي فلتذهب هذه القيم إلى مزبلة التاريخ ما دام المرتقب هو إطاحة بنيوية كبرى وتاريخية بكل ماضي التمركز السعيد، إنها مجموعة جدليات لحظية تصب في صالح الديكتاتورية ومنظومة التمركز الراعية لها، وتخصم من رصيد الثورة الشعبية المنتشرة، لذا نجد هنا من الطبيعي أن تتلاعب هذه القوى بمفهوم الإطاحة وفعلها التطبيقي، وفي أحسن الأحوال تؤجله أو تأخره باعتباره مسألة تجارية بحتة تخضع لقوانين العرض والطلب وكلاهما يحدده الحكم لصالحه.
هذا التشعب النظري كانت له تداعياته على المستوى التطبيقي، وفيها برزت مواقف لقوى تتحدث عن ضرورة حتمية لإسقاط نظام البشير عبر كل الوسائل، بما فيها السلاح، هذا الموقف تمثله وتعمل له ميدانيا الجبهة الثورية السودانية التي لا تزعم يوما أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوداني، ولكنها قوى دينامكية لها حاضنتها الوطنية والفكرية والسياسية الجماهيرية، ولا يمكن أن تكون محلا للامتصاص والاستيعاب، بقدر أن أرضيتها السياسية تقودها للقيادة مباشرة وجادة عمليا للإطاحة بالحكم والتأسيس لنظام سياسي ديمقراطي، فيما هناك قوى مدنية وسياسية مشار إليها سابقا مختلفة من حيث التطبيق مع الأولى وتؤمن بفكرة الاستيعاب والامتصاص لفائدة ماهيتها كشأن الحكم عوض شراكتها، لذلك نجدها غير عابئة وما زالت لم تحسم خياراتها ولا تريد حسمها، واكتفت بالعبث بكم المصطلحات النظرية في براغماتيتها المعهودة لتحقيق مكاسب غير إستراتيجية مع قوى مجتمع الريف العريض القادم للدولة وإداراتها وتعلم هي علم اليقين أن الإطاحة بالبشير لا يتم شعبيا بقدر ما هي مزاوجة جادة وعملية بين السلاح والشعب.
في سياق هذه المزاوجة للإطاحة بالنظام السوداني، جاءت أفكار لقيادات عسكرية سبق أن تمت إحالتها للصالح العام على إثر صعود البشير للسلطة، وهي خطوة الغرض منها وقتها تطهير الجيش السوداني من أي قوى قد تنقلب على الانقلاب، هذه القيادات المحترفة وفي مجالات مختلفة تقول وبنظرة عسكرية حرفية ـ رغم انني لا أفهم شيئا في التخطيط العسكري- ان الإطاحة بالبشير تقوم على نظرية ‘ قطع الطريق من وإلى ميناء بورتسودان ليومين تحسم عملية فتح الخرطوم في اليوم الثالث’، أي هي نظرية الثلاثة أيام حربية وعسكرية قد تغير التاريخ السوداني. ويبقى في الأخير كيفية فك شفرات هذه النظرية لتحويلها إلى واقع، ومعنية بها الجبهة الثورية السودانية أكثر من غيرها.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن