نعم يمكننا… ولو خارج الشاشات: أن تناهض الإبادة كموقف أخلاقي

حجم الخط
0

مضى عام كامل ونيف على بدء حرب الإبادة الإسرائيليّة على قطاع غزّة، وها هي امتدت منذ ما يقرب الشهر إلى حرب مكتملة الأركان ضد لبنان، نفذت خلالها الدّولة العبريّة مدعومة بالسلاح والعتاد والأموال والتغطية الدبلوماسيّة من الغرب، أسوأ أشكال جرائم الحرب في العصر الحديث، حتى بدأت تتضاءل معها فظاعات الحرب العالمية الثانية، بما فيها أعداد ضحايا القنابل النووية، التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي في العام 1945، والمعاملة التي كان يتلقاها أعداء النظام النازي في معسكرات الاعتقال، بمن فيهم اليهود.
ومع ذلك فإن كل هذه العدوانيّة والقتل للفلسطينيين واللبنانيين ووجهت في غالب العالم العربي بسلبيّة فادحة، فكأن هؤلاء الذين تشبثوا بمقاومة المشروع الصهيوني، ليسوا من العرب، وكأن مذبحتهم العلنية على الهواء مباشرة أمر يحدث على كوكب بعيد، لا في جوار قريب، وغدا اليأس من بعض الأنظمة العربيّة وتماهي مصالح نخبها الحاكمة مع الغرب، كما لو انسحب على الجماهير، التي اكتفت بالانشغال بما تيسر من أمور الحياة اليومية، وكأن كل هذا الخراب، وهذه الدّماء الجارية شأن معتاد!
هذه الحالة الجماهيريّة العربيّة من (الزومبيّة) أو موت الوعي، إنما تعكس فشلاً تاريخياً للأمة في اتخاذ موقف أخلاقيّ من قبل 450 مليون فرد عربي، ليس بالضرورة كعرب أو مسلمين، وإنما على الأقل كبشر يشهدون على المذبحة اليومية، ويختارون بمطلق إرادتهم الصمت والتجاهل والإشاحة بوجوههم بعيداً.

«بالستاين أكشن»: نعم يمكننا

في بريطانيا، الأم الحنون للكيان العبريّ، وأحد أهم الداعمين له، تشهد مختلف المدن فيها تظاهرات شبه أسبوعية للتضامن مع الفلسطينيين واللبنانيين في مواجهة آلة القتل الإسرائيليّة. لكن هذه المظاهرات ظلت تحت سقف الشروط الأمنية القاسية، ووفق خطوط حمراء حولتها في النهاية إلى نشاط فولكلوري الطابع، لا يقدّم ولا يؤخر. لكن ثلة من الصبايا والشبان البريطانيين انخرطوا تحت تنظيم علني سموه (بالستاين آكشن – أو الحراك من أجل فلسطين) اختاروا تجاوز مرحلة التصفيق إلى فعل شيء عمليّ من أجل الضحايا، ونظموا بلا كلل حملة احتجاجات عارمة على مصالح الصناعات العسكريّة المرتبطة بالكيان العبري على الأراضي البريطانية، واستتباعاً البنوك وشركات التأمين التي تستثمر فيها وتمكنها من إنتاج أسلحة الذبح التي تشحن للجيش الإسرائيلي.
وشنت الحركة، التي تأسست لاستهداف الشركات المتواطئة في الإبادة والفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين هجمات بالطلاء الأحمر والمطارق لإغلاق مواقع تلك الشركات، ومكاتبها في أرجاء المملكة المتحدة، فحطمت نوافذها، ولطخت يافطات أسماءها بلون الدّم، وعطلت حركة سيارات الشحن منها وإليها.
وبالطبع، فإن الناشطين في (بالستاين آكشن) الذين تجاهل الإعلام البريطاني الرئيسي أنشطتهم، لم يظهروا على الشاشات، ولم يحتلوا صفحات الجرائد الأولى، ولم يكونوا كما يعتقد البعض في مواجهة قوات شرطة بريطانية لطيفة، كما في الصورة التي تسوّق لنا في العالم العربيّ، بل هم تعرضوا للضرب والاعتداءات من قبل مقاولي أجهزة الأمن الخاصة الموكلة بحماية المواقع المستهدفة، ومن ثم قبضت عليهم قوات شرطة رسميّة خاصة تتسم بخشونة تعاملها بحجة مكافحة الإرهاب، وأرسلوا إلى السجون لأسابيع طويلة، وعوملوا هناك بمنتهى القسوة، وفق قوانين تتعلق بالإرهابيين، وحوكموا كمجرمين وأدين بعضهم بالسجن لمدد تراوحت بين سنة وعدة أسابيع – هناك 16 منهم في السجون الآن – وغرّموا آلاف الجنيهات بأحكام كانت في مجملها أقسى من تلك التي حصل عليها مثيرو الشغب من اليمين المتطرف، الذين أرهبوا المجتمعات المحليّة خلال الصيف الماضي بهجمات عنصرية عنيفة ضد المساجد والبيوت والشركات.
ولا يقتصر الأمر عند معاملة السلطات القاسية لهم، بل إن هؤلاء وأغلبهم تلاميذ جامعيون أو شبان في بدايات حياتهم المهنية، يتعرضون لمطاردة غير علنية، لكنها ملموسة العواقب في أرزاقهم وجامعاتهم، وتظل تلاحقهم في سجلاتهم الجنائيّة التي يسهل أن تستخدم للتمييز ضدهم في الوظائف وغيرها، وسجن أحدهم لـ 12 شهراً بينما كانت زوجته حاملاً.
لكن كل هذا لم يوقف أنشطة «بالستاين آكشن»، إذ بينما يعتقل بعض رفاقهم، يستمر الآخرون بإثارة المتاعب للشركات الإسرائيلية وداعميها، وفور إطلاق سراح أحدهم من السجن يعود من فوره إلى حمل علب الطلاء الأحمر ومهاجمة مقرات الشركات والبنوك والمكاتب المستهدفة، أقله خلال عطلة نهاية الأسبوع. فهل يستحق هذا الموقف الأخلاقي كل هذا العناء؟
يقول الطلاب الذين سجنوا ودفعوا أثماناً لموقفهم الأخلاقي ضد الإبادة إنهم صدموا بالمعاملة القاسية، التي تلقوها من أجهزة الشرطة والقضاء والسجن في بلادهم، لكنّهم ودون استثناء عبروا عن فخرهم بأنهم فعلوا شيئاً، وإن كان – على حد تعبير بعضهم – يتضاءل مع حجم معاناة الفلسطينيين واللبنانيين، على يد الجيش الإسرائيلي.
على أن ما فعله هؤلاء الأفراد الشجعان لم يكن عبثاً. إذ تشير تقارير مالية إلى أن تراجعا ملحوظا في أرباح العمليات البريطانية لأكبر شركة أسلحة إسرائيلية (إلبيت سيستمز) التي تمتلك مصنعها لمحركات الطائرات بدون طيار، بالقرب من مدينة بيرمنغهام البريطانية، وتصنع 85 في المئة من الدّرونات التي تطلقها الدولة العبرية في سماء لبنان وفلسطين المحتلة. وأظهرت بيانات من فروع الشركة أن بعضها خسر بالفعل بعد سنوات طوال من الربح الأكيد.
قد يكون هذا التراجع في الأرباح بسبب تكاليف الحماية الخاصة الإضافية التي تضطر الشركات الإسرائيلية الآن إلى توظيفها لحماية منشآتها، وكذلك المصاريف التي تكبدتها لرفع سوية تجهيزات الأمن من الأسلاك الشائكة والكاميرات الأمنية والحواجز وغيرها، إضافة إلى التوسع في تعيين حراس ومشرفي أمن يتمتعون بخبرات عسكريّة، ما رفع «النفقات الإدارية» على نحو ملموس. واضطرت بعض المواقع لوقف الإنتاج كلية لعدة أشهر كي يتسنى لها رفع سوية الحماية الأمنية في المرافق.
هذا بالطبع دون حساب التأثير السلبي على الإنتاجية ومواعيد التسليم، ومعنويات الموظفين الذين تتردد على أسماعهم دورياً هتافات «أجوركم مغمسة بالدم الفلسطيني»، وأيضاً الضغوط التي تمارس على شركات التامين والبنوك والتي لا شك تنعكس في المحصلة ارتفاعاً في تكاليف الإنتاج.
ومن المؤكد أن إحدى الشركات المملوكة من الصناعات الإسرائيلية قد بيعت بسبب هذه الحملة لمستثمرين جدد قرروا وقف جميع عمليات إنتاج قطع غيار الدبابات الإسرائيلية وركزوا بدلاً من ذلك على صنع قطع غيار لوسائل النقل العام في بريطانيا.

المواقف الأخلاقية ليست بالمجان

بالطبع سيقول خبراء التبرير إن الجماهير العربيّة تخشى القبضة الأمنية لأنظمتها الحاكمة إن حاولت إظهار التضامن مع فلسطين ولبنان، وإن تجاربها تشي بقدرة هذه الأجهزة الفائقة على التضييق والإيذاء، ولكن المواقف الأخلاقية تفقد قيمتها وتكون ترفاً إن لم تحمل تكلفة ما، كما أن التضامن مع المذبوحين لا يحتاج حكماً إلى الثورة الشاملة، ولا يحتاج إلى مشهديّة تلفزيونية كي يستقيم ويكتسب وزناً، إذ أن أفعالاً رمزية وسلميّة قد تقول الكثير.
لقد قدّم مناضلو (بالستاين آكشن)، غير العرب، وغير المسلمين، لجماهيرنا العربيّة درساً بليغاً.

 إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية