لدواع أتفهمها تماما، أخبرتني أعرق مؤسسة إعلامية بريطانية بإلغاء نقاش كانت ستستضيفني فيه، وكان مقدرا له أن يكون، بكلمات المنتج التي أتقاسمها بكل أريحية بعد أن كشف لي المحتوى، «نقاشا جميلا» فعلا.
كنا سنقف عند الأزمة التي يجتاحها عالمنا حاليا، بوجوهها البيئية والجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكنا سنتساءل إن كانت أزمتنا نتاج تداعيات عريضة عسيرة على التوقع؟ أم حصيلة سلسلة عوامل متلاصقة، لم نعد لها العدة بما فيه الكفاية وربما لم نعد لها العدة أبدا.
بكل تأكيد، كشفت أحداث كورونا فشلا في إدارة الأزمات، بل كشفت أن إدارة الأزمات ليست حكرا على أروقة الحكومات والوزارات، وإنما تطال كل فرد على حدة. وبغض النظر عن قصة الفيروس المنفلت، أو غير المنفلت من «قبضة» مختبر صيني، كان من المعلوم أصلا أن «كورونا فيروس ديزيز 2019» لم يكن مرضا ظهر على السطح بصورة فجائية، ليغلق الباب رأسا أمام خطوات الاستباق والتوقع، بل كان باب الاستباق والتوقع موجودا أصلا بحكم المنطق، ففصيلة كورونا تنتمي إلى أسرة من الفيروسات معروفة، سبقت الأزمة الصحية من زمن، ولم يغد تفاقم الأوضاع، سوى نتاج تحور سلسلة من «النسخ المتحورة» أصلاً، لذا، لم يكن رسم خطوة استباقية لاتقاء درجات خطورة الموقف أمرا خارجا عن مدار الممكن. وقع تداول العشرات من المقالات التي حملت عناوين مثل «فن إدارة الأزمات»، «التدبير للمستقبل»، «دراسات استشرافية”، «دراسات مستقبلية»، أو «استراتيجية التدبير والتوقع.» لم يصبح عالمنا مجرد «عالم متعدد الأقطاب»، بل صار عالما يحتل فيه المجهول موقعا متميزاً يختلف عن الكيفية التي كنا نتصور بها المجهول قبل سنوات، وذلك بفعل التقدم العلمي الذي لم يؤثر في مجرد النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، بل أثر في تصورنا للظواهر المستجدة، وليس الفيروس المستجد إلا واحدة منها، وسوء استعدادنا للتعامل. لقد بتنا نواجه مجهولا تسابقه عتبات من المعلوم، وإن تمكنا من تدبير هذه العتبات، فإنها ستجعل من المجهول مجهولا أقل وطأة.
كشفت أحداث كورونا فشلا في إدارة الأزمات، بل كشفت أن إدارة الأزمات ليست حكرا على أروقة الحكومات والوزارات، وإنما تطال كل فرد على حدة
من الحتمي إذن اعتماد نمط تفكير جديد، يُرشح له أن يفرز أنماط حياة جديدة.. طبعا، موضوع حماية البيئة طرح نفسه منذ زمان، لكننا قرأناه كخيار أكثر منه نمطا. وعندما نتحدث عن «نمط» فهذا يعني أن التغيير لا بد أن يكون جذريا، سلوكيا، أخلاقيا، سياسيا، على مستوى الجماعة كما على مستوى الفرد. لا استبعد، بل أكاد أجزم أن التصنيفات الكلاسيكية بين «ليبرالي» و»اشتراكي» و»متقدم» و»نام» و»منتج» و»مستورد» لن تصمد أمام قدرتنا من عدمها، على إعادة تصور هويتنا الحضارية التي تتطلب إعادة هيكلة لها، تمر عبر إعادة صياغة علاقتنا بالطبيعة، أجل فطرح جان جاك روسو، الذي ساق فكرة خروج الإنسان من «حالة الطبيعة» لينتقل إلى الحضارة، طرح زائف، فلم يخرج الإنسان من حالة الطبيعة أبدا، بل توجب عليه التكيف معها.. وبيت القصيد هنا. وإذا كنا قد انتبهنا إلى خطاب الملك البريطاني الجديد، فهذا ما يقوله تحديدا.
قرأت قبل أيام مقالا يستهزئ فيه كاتبه من ميل الملك تشارلز الثالث إلى «الطب البديل وغيره من السخافات…» لكن الخريطة الإيكولوجية التي يعتزم الملك الجديد تثبيتها، النابعة مباشرة من دائرة اهتمامات الأمير تشارلز طيلة حياته، تنسجم عضويا مع محاولة إعطاء انطلاقة جديدة لقوة صناعية قديمة كبريطانيا ليس من طبيعتها، رغم تمتعها بمناطق خضراء وريفية عديدة، التحول إلى نمط حياة يتلاءم، في قلب واحدة من أكثر منصات المال والأعمال إنتاجا، مع متطلبات ما سأنعته بالـ»نمط الجديد». ليس النمط الجديد عبارة سهلة التحديد، لكنها في الوقت نفسه تعبر عما يحتاجه الإنسان من رعاية مقبلة، وهنا، ليست مجرد الرعاية التي يمكن أن ينالها من الدولة، بل الرعاية التي يمكن للإنسان أن يقدمها لنفسه وبنفسه. هذا الاكتفاء الذاتي الطبيعي، الذي يمكننا أن نسميه مناعة غير مكتسبة بعد، تشكل لب تحدي المستقبل ومفتاح مواجهته. ألم يكن حينها جديرا بإبقاء هذا النقاش المصيري عنوانا لبرنامجنا الإخباري، وإن كانت الأنباء العاجلة breaking news المتعلقة برحيل الملكة تستدعي شيئا من القولبة؟ ألم يكن موضوع النقاش من أولويات الملك الجديد التي حددها بواضح العبارة؟
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي