شاع في النقد المغربي خلال السبعينيات التمييز بين النقد الصحافي والأكاديمي، وهو مبني على الوسيط أو الفضاء، الذي ينشر أو يقدم فيه هذا الخطاب النقدي. منذ بداية الثمانينيات، وتحت تأثير البنيوية طرحتُ سؤالا حول ضرورة تجاوز هذا التمييز، واستبداله بالبحث في طبيعة الخطاب النقدي، ووظيفته اللتين تحددان مميزاته وملاءمته ليكون «نقديا» بالمعنى الدقيق للكلمة. مرت أربعة عقود على دراسة نشرتها في مجلة «آفاق» (ع. 3 ـ 4، 1984) أعيد تقديمها لتأكيد أن القضية ما تزال تفرض نفسها لتجديد خطابنا النقدي.
«انطلق الشكلانيون الروس من تحديد «الأدبية» باعتبارها الخاصية المتميزة التي تجعل من الأدب أدبا، وجعلوها مدار البحث والدرس. انطلاقا من الهاجس نفسه في البحث عن تلك الخاصية، تفرعت الاتجاهات والمدارس في النقد الجديد. فهل تساءلنا ما هي المنجزات التي حققناها في الكشف عن القيم المهيمنة في تراثنا الأدبي، التي من خلالها يمكننا أن نجلي «أدبيات» أدبنا العربي، قديمه وحديثه؟
لننطلق من أن «الأدبية» خاصية عامة يتميز بها الخطاب الأدبي بعامة عن بقية أنواع الخطاب الأخرى. ولنحاول تدقيقها على خصوصيات النوع الأدبي من خلال السؤال: هل حددنا «الشعري» و»المسرحي» و»السردي»؟
نريد الممارسة، لنمارس النظرية. نريد الجواب، لنطرح السؤال. نريد التغيير، لنحاول الفهم. لطالما فرضت علينا الممارسة السخرية من النظرية. ولطالما حاولنا التغيير، ونحن لا نفهم ماذا نريد. هذه هي الظاهرة الأولى التي يمكن تسجيلها على واقعنا الفكري والاجتماعي في مختلف تجلياته وضمنه فكرنا الأدبي. فنحن نتعامل مع الظاهرة الأدبية في كليتها، دون أن نحدد العناصر التي يتحدد من خلالها هذا أو ذاك الكل، لذلك، لم يكن ديدننا البحث في الخصوصي، بله المتميز ضمنه، وإنما في الأعم. وكانت نتيجة ذلك إعادة إنتاج الأجوبة عينها دون أن ننفذ إلى أعماق الظاهرة من خلال مراكمة الأسئلة النوعية بصددها.
وعلى غرار المنطلق السابق، ألا يمكننا، ونحن نحاول هنا، الحديث عن نقد الرواية المغربية، أن نبدأ أولا بتحديد «النقدية» كخاصية منهجية لتمييز الخطاب النقدي عن غيره من أنواع الخطاب، ويكون هدفنا من وراء ذلك الإمساك بأهم المقومات التي يقوم عليها، باعتباره خطابا واصفا يستند في إنتاجيته إلى خطاب آخر له خصوصياته ومميزاته؟ قد تبدو هذه الدعوة سخيفة بالنسبة للبعض، ومثار الاستهزاء، لكن مقام السياق ـ المنطلق، إذا سلمنا بصحة مقدماته، يفترض التميز والمغايرة بين شتى أنواع الخطاب، ضمن بنية ذهنية شاملة، يتم فيها تركيب إنتاج الخطاب ككل. وتستدعي ضرورة التقدم في التحليل، الإمساك بمكونات ومحددات الخطاب، وفرز الخطابات حسبما يجمعها أو يفرقها، من أجل الكشف عن مميزاتها وخصائصها في مستوى أول، وصولا إلى الارتقاء إلى مستوى ثان أعلى تحدد من خلاله إنتاجية كل الخطابات وتفاعلها في مجرى معرفي عام، وفي السياق، بنية ذهنية شاملة.
إذا كانت لكل خطاب خصائصه ومميزاته، فإن أحد أهم المنطلقات التي ينبغي أن ينطلق منها تحليل الخطاب هي، أن يحلل الخطاب المدروس، كيفما كان نوعه، أدبيا أو علميا. وكل خطاب كيفما كان نوعه، يستدعي ضرورة التحليل، وهذه إحدى مميزاته، دون ذلك لا يمكننا إلا أن نرجم بالغيب ما نتحدث عنه بخطاب ثان، هو بدوره خلو من أي تحديد. من هنا تأتي أهمية نظرية لتحليل الخطاب التي لم ولا نعيرها أي اهتمام. ومن هنا أيضا تأتي صعوبة الحديث عن تحليل الخطاب. بواسطة اللغة ننتج أغلب الخطابات، وبواسطتها أيضا نتحدث عن كل الخطابات، ودون تقدم في تحليل اللغة العربية لا يمكن إنجاز شيء ذي بال يتصل بتحليل الخطاب، ودون التقدم في تحليل خطابات بعينها: الخطاب السياسي، الفلسفي الديني الأدبي، انطلاقا من تخصيصات ضمنها، لا يمكن الوصول إلى نظرية لتحليل الخطاب. إن كل أنواع الخطاب، رغم ما بينها من فروقات ومتميزات، تنتظم ضمن شبكة معقدة من العلاقات المتعددة التي يتداخل فيها النفسي والاجتماعي والفكري في لحظة تاريخية معينة، وتلك العلاقات المتعددة الأبعاد تتمحور بالأساس، حول عنصر التواصل الاجتماعي، بما يعنيه هذا العنصر في إطار تركيبة اجتماعية طبقية، من تفاوت وتناقض المصالح والغايات، وفي هذا السياق الاجتماعي، يتم إنتاج الخطابات، وتتعدد، ويتميز بعضها عن بعض، لكن ضمن تلك الشبكة المتعددة الأبعاد المشار إليها. لكل ذلك، تغدو عملية تحليل الخطاب بمختلف تجلياته، أحد المستلزمات التي ينبغي أن يضطلع بها البحث والتحليل، وذلك بهدف تطوير مدركاتنا للمحيط الذي نعيش فيه، بتطوير أدواتنا التي نستعملها في حياتنا اليومية، والارتقاء بمستوى التواصل إلى درجة أعلى من التمايز والوضوح، ومن خلال ذلك يمكن الارتقاء إلى مستوى إنتاج الخطاب المطابق والممكن. ولا يسعنا، ونحن بصدد هذه النقطة، إلا أن نسلم بصعوبة إنجاز مثل هذا العمل، الذي يتطلب الكثير من الجهد، كما لا يسعنا أخيرا إلا أن نؤكد أن محاولة مقاربة الخطاب النقدي هنا ليست إلا مدخلا أوليا نأمل أن تتاح لنا إمكانية مراجعته وتطويره».
إن نظرية عامة لتحليل «نقدية» الخطاب النقدي ضرورة لتجاوز التسيب النقدي.
كاتب مغربي