الأمن والحرية والعدالة قيم جوهرية تتصدر مستلزمات الحياة الكريمة للإنسان اينما كان. ولا تؤثر الخصوصيات الثقافية على الرغبة لتحقيقها. ويمكن اضافة قيم اخرى لهذه المستلزمات غير انها مطالب بشرية لا يمكن المساومة عليها، كما لا يمكن استبدالها بضرورات أخرى، فلا يمكن إغداق الأموال على الناس في مقابل سلب حريتهم.
ولكي يصبح النظام السياسي في أي بلد مقبولا فإنه مطالب بضمان تحقق هذه القيم كشرط لبقاء الحكم. ومنذ الحرب العالمية الثانية طُرح النظام الديمقراطي من قبل القوى المنتصرة عنوانا للدولة الحديثة، واستخدم على نطاق واسع خلال الحرب الباردة في ذروة الصراع مع الاتحاد السوفياتي.
ولم يسمح بطرح بدائل اخرى للديمقراطية، بل ذهب بعض المفكرين الغربيين بعيدا، حتى اعتبرها المفكر الأمريكي، فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» أي ان الإنسانية استنفدت ما لديها من امكانات واجتهادات في مجال الفكر السياسي بعد ان توصلت للديمقراطية الليبرالية. وكانت شعارا فاعلا على مدى نصف قرن بعد الحرب، ولم يتراجع بريقها الا في ربع القرن الاخير. وفي الواقع يبدو أن الفكر السياسي الغربي قد توقف عن البحث عن بدائل لمشروعه السياسي هذا، الأمر الذي يهدد بتراجع المشروع الديمقراطي وتداعيه لتوقف رفده بالأفكار الجديدة والتطوير.
وتزامن ذلك مع تراجع سياسة الترويج للديمقراطية في العالم التي التزمها الغربيون خلال الحرب الباردة، والتحالف غير المقدس بين هذه «الديمقراطيات» واشد الانظمة استبدادا، والتخلي عن دعم النشطاء من اجل الديمقراطية.
وقد ارتكب الغربيون خطأ كبيرا عندما تخلوا عن ثورات الربيع العربي قبل عشرة أعوام، ودعموا انظمة الاستبداد بشدة. بل ان البيت الأبيض يصرّح علنا بأنه دعم انظمة استبدادية ومنعها من السقوط، وبذلك حال دون تطوير المنظومة السياسية التي تحكم تلك البلدان.
وثمة تململ بدأ ينتشر في الأوساط الغربية بعد أن شعر الكثيرون ان الديمقراطية لم تحقق لهم السعادة التي يبحثون عنها. ومن المؤكد أن ضعف أداء الديمقراطيات الكبرى في «العالم الحر» في تعاطيها مع وباء كورونا يمثل تحديا كبيرا لأنظمة الحكم. فأمريكا وبريطانيا سجلتا إصابات ووفيات خلال الشهور التسعة الاخيرة فاقت الدول الأخرى، بينما استطاعت الصين، وهي البلد المحكوم بنظام شمولي غير ديمقراطي، السيطرة على الوباء بشكل شبه تام. وحياة الإنسان أغلى ما لديه، وقد يتنازل عن امور كثيرة إلا عن الحياة. وقد تباهى الغربيون بالإضافة لنظامهم السياسي الديمقراطي، بأنظمتهم الصحية التي ما تزال تحظى بتقدير مواطنيها. ولكن عندما لا تستطيع الحفاظ على حياة الإنسان، فإنها تواجه تحديا على صعيد المصداقية والقبول الشعبي. يضاف الى ذلك ان تصاعد الظاهرة الشعبوية التي سمحت لشخص مثل دونالد ترامب بالوصول الى أعلى منصب في العالم، يمثل ضربة لجوهر المشروع الديمقراطي.
ويتوقع تراجع مستويات المعيشة في أغلب البلدان «الديمقراطية» في العالم خصوصا مع انتشار الجائحة والفشل في توفير لقاحات أو علاجات ضده. ولن تنحصر تبعات هذا الفشل بالتراجع الاقتصادي الناجم عن سياسات الحظر الاجتماعي الذي أربك دورة العمل ومعها حركة الاقتصاد، بل ستتعدى ذلك لتصل الى سجالات جادة حول الهوية السياسية لـ «العالم الحر».
ارتكب الغربيون خطأ كبيرا عندما تخلوا عن ثورات الربيع العربي قبل عشرة أعوام، ودعموا انظمة الاستبداد بشدة. بل ان البيت الأبيض يصرّح علنا بأنه دعم انظمة استبدادية ومنعها من السقوط، وبذلك حال دون تطوير المنظومة السياسية التي تحكم تلك البلدان
ومن المؤكد أن قضية «الأخلاق» ستطرح بقوة خلال تقييم الديمقراطية الليبرالية التي بدأت تترنح نتيجة الوباء والتراجعات الاقتصادية العملاقة. فاذا كانت الازمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم في العام 2008 قد أضرت بجوهر النظام الرأسمالي خصوصا ان الأزمة طالت النظام المصرفي الذي هو عصب الرأسمالية، فان تداعيات الجائحة ستؤدي لتراجعات أخطر كثيرا مما حدث قبل اثني عشر عاما.
في الاسبوع الماضي أصدر «مركز مستقبل الديمقراطية» بجامعة كامبريدج نتائج دراسة واسعة للتعرف على توجهات الأجيال المتعاقبة ازاء الديمقراطية في البلدان التي تنضوي تحت هذا النظام. واظهرت الدراسة تراجع الثقة بشكل متواصل عبر الاجيال. خصوصا الجيل الذي ولد بعد العام 2000 وقال روبرتو فاوا، المشرف على الدراسة: «انه اول جيل في الذاكرة الحية يمثل أغلبية غير راضية عن اداء الديمقراطية، واعمارهم ما بين 20 و 30 عاما». وأظهر التقرير الذي شمل دراسة التوجهات لدى قرابة المليارين ونصف من البشر، سبعون بالمائة منهم يعيشون في ظل أنظمة ديمقراطية، حالة من عدم الرضا تتراجع من جيل لآخر. وقال التقرير ان هذا التداعي في الثقة اوضح في ديمقراطيات الانكلو سكسونية: بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا. وقال إن هناك منحى مماثلا في أمريكا اللاتينية والصحراء الافريقية وجنوب اوروبا. وذكر التقرير أن من اسباب تراجع الثقة في النظام الديمقراطي التباين في الدخل وصعوبة امتلاك السكن، وتصاعد اعباء ديون الطلاب وازدياد الاعتماد على الوالدين للدعم المالي. ونجم عن ذلك تعمق القناعة لدى الأجيال الجديدة بأن فرص النجاح لا تعتمد على العمل الجاد والمبادرات بل على الثروة والامتيازات الموروثة. وجاءت النتيجة من تحليل المعلومات التي جمعت من حوالي خمسة ملايين شخص في اكثر من 160 دولة وامتدت فترة قرابة نصف قرن (1973 ـ 2000).
هذه الدراسة ليست الوحيدة من نوعها وان كانت الاوسع مدى والاوضح من حيث المدلولات وما تثيره من تساؤلات حول المستقبل. فعدم الثقة بالديمقراطية لا يعني القبول بالأنظمة الاستبدادية والشمولية، كما لا يعني ان النظام الديمقراطي سوف يسقط قريبا. ولكنه مؤشر لأمور عديدة: اولها ان النظام السياسي الذي ينتجه العقل البشري محكوم بالزمان والمكان، ولا يمكن ان يخترق هذين البعدين.
فالعقل البشري محدود بظروفه المعيشية، ويتأثر بعوامل حياتية كثيرة. كما انه محكوم بالعقل البشري المحدود. ثانيها: ان الظروف المعيشية للبشر عامل أساس في مدى حماسهم للمشروع السياسي الحاكم. ينطبق هذا على المشروع السياسي العلماني والديني ايضا. فالحماس للنظام السياسي الاسلامي هو الآخر محكوم بمدى قدرته على توفير الأمن والحرية والعدالة. ثالثها: ان دور المواطن في القرار يتلاشى تدريجيا، وهناك توجهات لتقليص مساحة المشاركة السياسية بشكل فاعل. صحيح أن الحريات العامة مكفولة، ولكن مبدأ الشراكة السياسية الحقيقية يتقلص دوره تدريجيا. وصحيح ايضا أن هناك حقوقا للتعبير عن الرأي والاحتجاج والتجمهر، ولكن وسائل التعبير او الرقابة او المحاسبة لا تمتلك آليات فاعلة للضغط الحقيقي. رابعها: ان مبدأي الرقابة والمحاسبة شرطان لضمان المسار الديمقراطي وانسجام الساسة مع القانون والرأي العام ولكنهما يشهدان مزيدا من التضييق، وان وسائل الاعلام يتم احتواؤها لتصبح بوقا للنظام، وتعمل هذه الوسائل لتكريس مبدأ يزداد العمل به: قولوا ما تشاؤون ونفعل ما نشاء. خامسا: ان النظام الديمقراطي ليس محكوما بمنظومة اخلاقية، بل ان المقولة السائدة ان السياسة «قذرة» اي ان السياسي ليس محكوما بالأخلاق العامة كالصدق والمعاملة الصادقة مع الناخبين او تنفيذ «المانفيستو» الانتخابي.
وحيث ان لدى النظام الحاكم في البلدان الديمقراطية وسائل إعلامية وأمنية واسعة، فقد استطاع تحييد الدور الشعبي بشكل واسع. يضاف الى ذلك ان منظمات المجتمع المدني والاتحادات العمالية انحسر دورها السياسي بشكل ملحوظ. سادسا: ان تغول المؤسسات والأجهزة الأمنية في البلدان الديمقراطية أضعف الجانب الديمقراطي واصبح هناك توجها لـ «الدولة البوليسية». وهناك من يرى أن السماح بالحريات العامة انما هو تأكيد للطبيعة البوليسية وليس لقوة القانون. فلان اجهزة الأمن هي التي تمسك بزمام الامور، فما الضير في السماح بحرية التعبير ما دامت غير ملزمة للنظام؟
هل حقا هناك أزمة لدى المشروع الديمقراطي؟ الدراسة المذكورة تؤكد ذلك، وتشير الى تعمق الشعور بعدم السعادة والرضا لدى قطاعات واسعة من المجتمعات ذات الأنظمة الديمقراطية. هذا لا يعني أن هناك من يرغب بالتحول نحو أنظمة شمولية. فهذا خيار غير مطروح.
كاتب بحريني
سبات استبدادي ظالم يسود العالم. والبعض يسأل: انا هذا؟ قاصدا مستر كورونا الشرس.
مقال هام، سيما تنويهه بأهمية الاخلاق في الديمقراطية الليبرالية بعد وباء كورونا والازمة المالية العالمية. بعد فوز الاحزاب والاتجاهات الشعبوية في العالم الغربي، سادت البراجماتية على خيارات السياسة العامة والخارجية الغربية. واصبح الغرب في سياساته اقرب للمسار العشوائي، كخطوات رجل ثمل لا يمكن التنبؤ بها. فما بالك بمن يتبع الغرب كظله؟ لي ملاحظات حول “التفوق” المزعوم للصين. فهي بداية مصدر الوباء على الاغلب. وهي ثانيا لجأت الى نهج استبدادي في العلاج بما في ذلك غياب الشفافية. وثالث، يصعب استنساخ تجربة الصين بمواردها وسياساتها وحجمها والتزام شعبها.
تابع.. ملاحظة اخيرة، وهي ان المأزوم باعتقادي ليس الديمقراطية او الشورى، وانما الليبرالية الجديدة او الفردية الغربية المتطرفة ومقابلها وهو الاستبداد. اما الديمقراطية بمعنى المشاركة وحق تفنيد خيارات السياسة العامة، فهي ليست المشكلة وانما الحل في ظل ظروف عربية وعالمية شديدة التعقيد، تسودها الفوضى واثر الفراشة.