نقمة

حجم الخط
4

تعرضت الكتب دائما لنقمة غريبة من الناس، خلال حقب كثيرة عبر التاريخ، وقد كتبت في هذا الموضوع مرارا، ليس فقط من خلال نقمة مجتمعاتنا العربية على بعض الكتاب وكتبهم بل عن كراهية لا تفسير لها من قبل مجتمعات تدّعي التدين ولا تقترح لحماية معتقداتها المختلفة وعاداتها المتوارثة إلا حرق بعض الكتب، التي يطال تأثيرها أدمغة أبنائها.
من تلك الأحداث الغريبة التي طالت بعض الكتب، ومنها على سبيل الذكر، رواية الأمريكي هنري ميلر «ربيع أسود» التي أقدم سكانٌ من مدينة كراسنودار عاصمة الجنوب الروسي بإحراقها في عيد المرفع، بدلا من إحراق دمية قش ليقولوا وداعا للشتاء الروسي. ذلك الاحتفال الغريب الذي تبنته جمعية «العالم الروسي» أصدرت بيانا ساخطا وخاليا من أي عقلانية يقول: «شتاء نووي خير من ربيع أسود»، ولم يكتف الغاضبون من ميلر بحرق هذه الرواية فقط، بل سحبوا رواياته من المكتبات وأحرقت علنا وهذا منذ ثلاث سنوات فقط. ومن فترة قريبة جدا، في ربيع هذا العام، أقدمت مجموعة من الرهبان الكاثوليك في بولندا، على إحراق قصص «هاري بوتر» للكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ، ومجموعة روايات «توايلايت ساغا» للكاتبة ستيفاني ماير، أمام كنيستهم، مرددين الصلوات لخلاص البشرية من تلك الأعمال الشيطانية، وقد كتبوا على صفحتهم على فيسبوك التي أطلقوا عليها اسم «sms من السموات» إننا نطيع كلمة الرّب»!
الصحافة الغربية التي اهتمت بهذا الخبر، تحدثت مع رجال دين، أصروا على أن الفكر الشيطاني يجب محاربته، ولكنهم وجدوا صعوبة في التعبير بصراحة عمّا سيلي عملية حرق كتاب، تراها عملية حرق الكاتب نفسه؟ «فأينما يتم حرق الكتب ينتهي بنا المطاف إلى حرق الرجال»، حقيقة تلفّظ بها الشاعر الألماني هاينريش هاينه ولا يمكن إنكارها. إذ أن هذا الأمر الذي عشناه ونعيشه حاليا بخبرة أكثر من تلك الشعوب المدللة، نعرف أين سينتهي، لكنه في بلدانها، التي تدعي حماية الحريات، قد يكون الأمر خطيرا جدا، كونه انتشر مثل الفيروس عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ولاقى استحسانا من فئات واسعة من»المؤمنين» وهذا يكشف مدى هشاشة الإنسان أمام أي تعبئة دينية تضعه في مواجهة الله، وتقيّمه سلبا أو إيجابا، من خلال قراءاته حتى إن كانت خيالية محضة.
إن ما تحويه الكتب ليس مجرّد أشعار رومانسية وقصص مسلية، بل ذاكرة إنسانية بأكملها، ذاكرة لا تُسقط المختلف، ولا أسئلة الشك، ولا مسارات الحضارات المتنوعة في العالم، إنها شرائح صغيرة لذاكرة جماعية لسكان هذه الأرض، وهذا يناقض تلك الأيديولوجيات الضيقة، التي تريد فرض وجهة نظرها الفريدة، وجعلها نمط تفكير موحّد للجميع، وهذا طبعا ضرب من الجنون، فحتى أبناؤنا الذين من صلبنا نعجز أن نجعلهم نسخَا طبق الأصل عنا، فكيف يعتقد البعض أن زرع فكر مشترك بين جماعات مختلفة ممكن؟ حتى الحروب الأعنف في التاريخ لم تقتلع ذلك الاختلاف والتطور المتباين بين الشعوب، ثقافيا وعلميا، وما يليه من تطور في أنماط الحياة نفسها، والدليل أن المحارق الكبرى لمكتبات عظيمة عبر التاريخ، لم تحقق غايات أصحابها أبدا.

ما تحويه الكتب ليس مجرّد أشعار رومانسية وقصص مسلية، بل ذاكرة إنسانية بأكملها، ذاكرة لا تُسقط المختلف، ولا أسئلة الشك، ولا مسارات الحضارات المتنوعة في العالم، إنها شرائح صغيرة لذاكرة جماعية لسكان هذه الأرض.

كتب كثيرة اهتمت بهذا الموضوع الحساس، مثل كتاب خالد السعيد «حرق الكتب، تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات» الصادر عن دار أثر، و«كتب تحترق تاريخ تدمير المكتبات» للفرنسي لوسيان بولاسترون، مترجم للغة العربية نشرته وزارة الثقافة والفنون والتراث في قطر، كما لفت نظري ما كتبته العزيزة لطفية الدليمي عن كتاب الكاتب والشاعر الفنزويلي فرناندو بياز عن محارق الكتب في العراق، إبان الغزو العراقي، ويبدو أن الكتاب قيم جدا، خاصة أن فرناندو أنجزه بعد مشاهدات حية في أرض العراق، واجتهاد دام اثني عشرة سنة لجمع معلوماته. كما أن قيمته توضح أن عمليات إحراق الكتب ليست دائما من جهلة وأميين ورجال دين متزمتين، بل إنها عملية مقصودة من متعلمين مدركين لأهمية الكتاب لحفظ ذاكرة الشعوب، وكوني لم أطلع على الكتاب فلا أدري إلى أي مدى ذهب في بحثه، وما كم المعلومات التي قدّمها عن تلك المحارق التي طالت مكتبات عدة في الوقت نفسه في العراق، وكأنّها جزء من عملية مسح للذاكرة العراقية مع سبق الإصرار والتّرصد.
يطرح الكاتب محمد عيساوي عدة أسئلة بشأن عملية حرق الكتب فيقول»لماذا لا ترمى في المزابل ببساطة، أو تمزق وتبعثر في الهواء؟ أو تدفن تحت الأرض، لماذا تحرق تحديدا أمام شهود؟» ويبدو أن الإجابة ـ التي قد تكون شافية وقد لا تكون ـ يوردها فرانسوا بوسفلوغ أستاذ في مقارنة الأديان في جامعة ستراسبورغ، إذ يقول، إن حلقة الحرق تلك لها رمزية طقسية دينية، وهي أقرب لاحتفالية تتم فيها التضحية بما من شأنه أن يضعف القدرة الإلهية» وهذا جزء من حقيقة بشرية تنشأ من الخوف من الآخر، أما تلك الرسالة التي ترسل عبر حرق الكتب، فهي تهديد مباشر للأدمغة المفكرة، ففي كل»احتفالية مشابهة» تتطال ألسنة اللهب كل الكتب، بدون استثناء، كما فعلت نيران الرايخ النازي حين أحرقت كتبا منسوبة لكُتّاب يهود، فيما أكلت النار روائع في الأدب والموسيقى والفن التشكيلي وكنوزا في التاريخ والعلوم المختلفة.
إن الأمر هنا لا يتعلّق بطقس ديني فقط، حتى إن كانت جذوره كذلك، إنه أبعد من اقتلاع معتقد وزرع غيره، بل هو استيلاء مبرمج على ذاكرة شعب ما، ثم تعطيلها تماما، فكل عملية حرق تسبقها عملية انتقائية لنهب مخطوطات ثمينة، نعرف جميعنا أين نجدها اليوم، مبعثرة في متاحف عواصم العالم الشهيرة ومكتباتها المهمة.
إنّه سطو مسلح للحصول على تلك الثروة النائمة بين صفحات الكتب، وعملية إفراغ لجماجم قد يطالها النور لو أنها فتحت أعينها وقرأت محتويات تلك الكتب. وهذا في حدّ ذاته إشارة إلى نقمة كبيرة على المُكتَسَب العقلي، الذي يملكه المعتدى عليه، إذ أن النّقمة لا تتوقف على الممتلكات المادية، بل هو حقد دفين يهدده بشكل صريح: «سأعيدك للخلف، ولن تتقدّم أبدا عليّ».
الأمر برمته ليس نظيفا، فإحراق كتاب يخفي نقمة قمّة في الفظاعة، بالطبع بإمكان أي شخص أن يحرق كتب مكتبته ويرمي بها في مدفأته، لكن الأمر يصبح خطيرا حين يتم إحراقها علنا، مع رسالة أيديولوجية ما، فتدمير كتاب في حد ذاته لا يستحق كل هذه النقمة الحادة، فقد تم عبر مئات السنين قتل كتب في زمانها، بلفت النظر لأخرى بشكل مقصود، كما قُتِل كُتّاب بلجم أقلامهم بالطريقة نفسها، بوضع الواحد منهم في مقارنة دائمة مع كاتب آخر، وتفضيل هذا الأخير عليه، وقد انتهى كُتّاب في عمر باكر فقط بسبب هذه اللعبة الإعلامية الوسخة، لكن حرق الكتاب علنا جريمة تطعن الكُتّاب والقُراء والمُفكرين والشمس المشرقة في السماء، ونبض الحياة في مجتمع كان يتنفس من خلال كتبه.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد إبراهيم:

    منذ عام 2003 وعمليات ( الحرق ) مستمرة في العراق.بدأوا بحرق وسرقة المكتبات ذات الكتب التراثية والواح الطين الآثارية القديمة وارشيف الدوائر الحكومية والوزارات.وبعضها نقلوه إلى عواصم اوربية وشرق اوسطية معروفة.لم يكتفوا بذلك فحرّموا القراءة لكتّاب أساطين عند الناس ومنع تداول اسماءهم في الجامعات ومراكز البحوث والرسائل الجامعية مثل بن تيمية وبن الجوزي ووو.والاخطر كان استهداف العلماء بالقتل والاغتيال.وثبت ان وراء عمليات اغتيال المفكرين والعلماء في العراق هما اسرائيل وايران. ولما فرغوا نسبيا من العلماء والاطباء اتجهوا الى الادباء والشعراء والصحفيين..وزادوا خطورة انهم اضفوا على عملياتهم القــذرة : مفهوم القداسة.

  2. يقول سليم:

    لم نر شئ عن حرق مكتبة الاسكندرية ؟

  3. يقول الكاتب الأديب جمال بركات:

    أحبائي
    الدكتورة العزيزة بروين
    حرق الكتب وقمع الفكر من الأعمال العدوانية
    وهذه الأفعال المشينة لاتصدر الى عن نفوس غير سوية
    ولن تعطى القداسة أو الشرعية اذا صدرت عمن يرتدون أغطية دينية
    أحبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه..واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    جمال بركات…رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

    1. يقول كرستين جريس:

      استاذنا الأديب الكبير الرمز جمال بركات…الدكتورة الشاعرة الجميلة بروين حبيب
      كل من تمتد يده الى كتاب ابداعي بالحرق او التمزيق آثم مهما ارتدى من ملابس مقدسة

إشترك في قائمتنا البريدية