في 31 كانون الثاني/يناير 2003 كانت كاثرين تيريزا غَنْ، الموظفة في دائرة الاستخبارات البريطانية المعروفة باسم «قيادة الاتصالات الحكومية»، تقوم بعملها كالمعتاد، في ترجمة النصوص من الصينية المندرانية إلى الإنكليزية؛ عندما شاءت المصادفة أن تقع على إيميل بتوقيع فرانك كوزما، رئيس موظفي قسم «الأهداف الإقليمية» في «وكالة الاستخبارات الوطنية» الأمريكية. يومذاك كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن يحشد الحلفاء في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يبيح التدخل العسكري الأمريكي في العراق، وكان الإيميل يطلب تعاون الاستخبارات البريطانية للتلصص على هواتف مندوبي ستّ دول من الأعضاء غير الدائمين في المجلس (أنغولا، بلغاريا، الكاميرون، تشيلي، غينيا، باكستان)، بغية ابتزازهم وإجبارهم على التصويت لصالح مشروع القرار.
غَنْ، وقد تنازعتها أزمة ضمير مقابل واجب الالتزام بسرّية المعلومات التي تصادفها في عملها، عاشت ليلة أرق ممضة، قبل أن تقرر كشف محتوى الإيميل إلى صديق لها على صلة بصحافي استقصائي هو مارتن برايت، الذي نشر الموضوع على الصفحة الأولى في صحيفة الـ«أوبزرفر». بعد افتضاح الحكاية فاتحت غَنْ رئيسها المباشر بأنها تقف وراء التسريب، فاعتُقلت، وقُدّمت إلى المحاكمة بتهمة إفشاء أسرار رسمية. محاميها، بن إمرسون، اعتمد ستراتيجية دفاع بالغة الذكاء والبراعة، إذْ طالب الادعاء بتوفير الوثائق التي تكشف النصيحة القانونية الفعلية للمحامي العام للدولة، حول مدى شرعية دخول بريطانيا في الحرب إلى جانب الولايات المتحدة. ولقد وقع الادعاء، والحكومة البريطانية فعلياً، في حرج كشف تلك الوثائق التي تدين رئيس الوزراء توني بلير شخصياً وتبرهن أنه خاض الحرب على نقيض رأي محامي الدولة وفي انتهاك صريح للقانون الدولي؛ فلم يكن أمام الادعاء من خيار آخر سوى إسقاط الدعوى ضد غَنْ.
ليس جديداً أن تدخل السينما في مضمار نكش قاذورات الأجهزة الاستخباراتية وفضائحها، وإنْ كانت أسلوبية هوود في «أسرار رسمية» تضيف الكثير المستحدث إلى سينما الرواية/ الوثيقة
وقبل أيام بدأت عروض فيلم «أسرار حكومية» للمخرج الجنوب ــ أفريقي غافن هوود، الذي يروي حكاية غَنْ (قامت بدورها كيرا نايتلي) على نحو توثيقي صارم الالتزام بتفاصيل القضية، من كافة جوانبها؛ مع إحقاق دور اثنين من زملاء برايت، ومن كبار صحافيي الاستقصاء في بريطانيا، هما بيتر بومونت وإد فليامي. وهكذا لاح أنّ الفيلم لا يعيد تسليط الضوء على تلك القضية في السينما، بعد أن عالجتها مؤلفات كثيرة لعلّ أبرزها كتاب مارشيا وتوماس ميتشل في «الجاسوسة التي حاولت إيقاف حرب»، فحسب؛ بل يكرّم ذلك الطراز الحيوي والضروري والشريف والمشرّف من رسالة الصحافة، أي الاستقصاء والتحقيق ونبش الأسرار التي يجري طمرها لأسباب غير شرعية ومنافية للقانون، وتحديداً في أروقة الأجهزة الحكومية هنا وهناك في العالم، ولكن في الديمقراطيات الغربية بصفة خاصة.
ولعلي أتوقف بصفة خاصة عند فليامي، أحد ضمائر عصرنا والصحافي البريطاني اللامع صاحب التقرير الشهير الذي نشرته صحيفة الـ «غارديان» بتاريخ 7/8/1992، تحت عنوان «عار معسكر أومارسكا». كان فليامي بين أبرز، وأوائل، الذين سلّطوا الأضواء على معسكر الاعتقال الشهير الذي أقامه البوسنيون الصرب أواسط العام 1992، وكدّسوا فيه المئات من الأسرى المسلمين وبعض الأسرى الكروات، وشهد سلسلة من جرائم الحرب الصريحة، بينها القتل والاغتصاب والتعذيب. وفي حدود ما أعلم، كان فليامي نفسه هو صاحب أوّل تقرير عن فظائع التطهير العرقي الصريحة التي ارتكبها الصرب في البوسنة، في تقرير أوّل حيّ وصاعق بثّته إذاعة الـ BBC البريطانية، قبل أن تنشره الـ «غارديان» في اليوم التالي، على الصفحة الأولى.
كذلك كان فليامي قد غطّى أمريكا ما قبل هزّة 11/9 وما بعدها، حيث وصف، بموضوعية عالية وصدق حارّ في آن، تلك الجوانب السوداء من «الحلم الأمريكي»؛ ثمّ غطى احتلال العراق، وغاص عميقاً في عذابات الحياة اليومية للعراقيين البسطاء في ظلّ الغزو؛ فضلاً عن جلسات محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش، ونقل صورة أخرى مختلفة عن اللقاء الفريد، وجهاً لوجه، بين مجرم الحرب وضحاياه. لكنّ تقريره عن معسكر اعتقال أومارسكا قد يظلّ، حتى إشعار آخر، شهادته الكبرى الأبلغ على عصره، إذْ كتب أنّ المكان (الذي لا يبعد إلا قليلاً عن مرابع فينيسا الإيطالية!) «واحد من أكثر معسكرات الاعتقال جهنمية في زماننا. إنه المكان الذي يصبح فيه القتل والقسوة وشعائر الإذلال شكلاً من أشكال التسلية الشائهة».
كذلك فإنّ فيلم هوود يكرّم طرازاً في الكتابة الصحافية اختار له الرئيس الأمريكي الأسبق ثيودور روزفلت تسمية «النكش في الطين» Muckraking؛ أو، بمعنى أدقّ: تقليب القاذورات، وإظهار ما هو مستور من أوساخ وقبائح. لكنّ الحياة، وتطوّر تقاليد الكتابة الصحافية وأخلاقياتها، تكفلت بتطهير التعبير من مضمونه السلبي الفظّ، وبات على العكس صفة حميدة لذلك الصحافي/ المحقق، الذي يتعب ويكدّ ويغامر ويجازف حتى بحياته، من أجل إماطة اللثام عن الحقيقة. بين هؤلاء صمويل هوبكنز آدامز في سلسلة تحقيقاته «الدجل الأمريكي الأكبر»، 1905، حول التلاعب بالأدوية؛ وأبتون سنكلير، في «الغاب» 1906، حول تعليب اللحوم؛ ثمّ سيمور هيرش، الذي كشف مذبحة «ماي لي» في فيتنام، وفظائع سجن «أبو غريب» في العراق…
وليس جديداً أن تدخل السينما في مضمار نكش قاذورات الأجهزة الاستخباراتية وفضائحها، وإنْ كانت أسلوبية هوود في «أسرار رسمية» تضيف الكثير المستحدث إلى سينما الرواية/ الوثيقة.
الشكر الجزيل للاستاذ الكاتب