السينما لم تكن أبداً حكراً على الرجل، ولكنها كانت دائماً تحت هيمنته، وما تزال. والرجل، في هذا الميدان، متّهم بأبشع التهم: إنه يكتب التاريخ على مزاجه وانطلاقاً من نظرته ‘الرجالية’، متجاهلاً دور المرأة في صنع التاريخ، وفي بناء المجتمع، وفي النضال السياسي والاجتماعي، وهو كثيراً ما يشوّه صورة المرأة، ويظهرها على غير حقيقتها، ويتحيّز ضدّها، ويستغلّ جسدها على الشاشة لأغراض تجارية، ويصرّ على النظر إليها نظرة فوقيّة، وكثيراً ما يعتبرها في أفلامه كائناً أقل شأناً وذكاءً وبراءةً وحنكة منه…
ولعل المرأة العربية هي أكثر من ذهب ضحية هذه النظرة النمطيّة. فخلال سنوات طويلة وضع السينمائيون العرب المرأة في قوالب معينة وجاهزة، فكانت تمثّل الخير أحياناً عبر شخصية البنت المحتشمة، المثقفة، البريئة، الضحية، المعذّبة، المقهورة والمغلوبة على أمرها… وهو الدور الذي أجادته فاتن حمامة، أكثر من غيرها، فاستقطبت جمهوراً كبيراً وما تزال؛ أو كانت العذراء الأبدية التي ‘لم يمس فمها إلا أمها’، وهي شخصية بقيت ماجدة تلعبها حتى بعد أن تخطّت الأربعين؛ أو كانت المرأة القوية المسيطرة على طريقة ماري منيب و’مدوباهم اتنين’ أو، أخيراً، كانت المرأة الشريرة، بنت علب الليل، التي تستولي على عقول الشباب والرجال، وتحرق قلوبهم وكثيراً ما تؤدي بهم إلى الضياع وخراب البيوت.
وطبعاً تتلوّن النمطيّة وتتغيّر مع مرور الأيام، وتطوّر الأخلاق الاجتماعية وتجاوز بعض التقاليد القديمة، فتظهر صورة المرأة عبر شخصيات أقل حدة في نمطيتها، ولكنها تبقى خاضعة لمقاييس استمدت معطياتها من الأخلاقية السائدة وسجنت المرأة داخل حدودها، في إطار ما يرسمه الرجل وما يسمح به أو يمنعه. فالمرأة إما صبية بانتظار فتى الأحلام، أو امرأة بانتظار عودة الزوج، أو أم تضحّي من أجل زوجها وأبنائها. وهي نادراً ما تكون لذاتها. المحور هو الرجل. وهي تدور حوله، وتعيش من أجله، وتتعذّب بسببه، وتضحي في سبيله. وهي موضع شرفه، وكرامته. ومحافظته عليها، وحمايته لها، هي من محافظته على شرفه وحماية كرامته.
وبشكل عام، فإن السينما العربية، باستثناء القليل النادر، استسهلت النمطية، وارتاحت إليها، ولم تبحث جدياً عن تخطيها. غير أن ثمة محاولات ظهرت هنا وهناك في السنوات الأخيرة تميزت بنظرة جديدة مختلفة للمرأة، ترى فيها كائناً حياً في المجتمع، لها ما للرجل وعليها ما عليه. فصرنا نشاهد المرأة تدرس في الجامعات، وتنخرط في كافة مجالات العمل والإنتاج، وتتحمل المسؤولية وتتولى الوظائف والمهام القيادية، وتطالب بحقوقها، وتشارك الرجل همومه، وأحياناً تناضل اجتماعياً وسياسياً، وتتجرأ على رفض القيم والمفاهيم السلفية السائدة، وأحياناً أخرى تتحدّى الرجل، وتنتزع حقوقها انتزاعاً، وتواجه المجتمع وتؤكد ذاتيتها. والمسألة لم تعد محصورة بتطور نظرة السينمائي الرجل إلى المرأة. فإذا كان صحيحاً أن بعض النساء العربيات لعبن، ومنذ عقود، أدواراً مهمة في صناعة السينما، والمنتجتان ماري كويني وأسيا داغر خير مثال على ذلك، وقد أنتجتا العديد من أبرز الأفلام المصرية، فإن الصحيح أيضاً هو أن وقوف المرأة العربية اليوم وراء الكاميرا وليس فقط أمامها لم يعد مجرّد ظاهرة أو حالة استثنائية وإنما بات أمراً عادياً ومألوفاً وطبيعياً. ففي البلدان العربية عشرات النساء اللواتي اخترن السينما وسيلة للتعبير والاتصال وبذلك فإن المرأة العربية تؤكد، إذا كان الأمر يحتاج إلى مزيد من التأكيد، إنها هي أيضاً قادرة على التعبير بواسطة الكاميرا على الرغم من ‘ثقل الكاميرا’ ومن صعوبات المهنة بل ومشقاتها في بلداننا، وعلى الرغم أيضاً من احتكار الرجل لهذه المهنة خلال سنوات طويلة، وإنها بالتأكيد عندها ما تقوله في الحياة والكون والإنسان والمجتمع والتغيير والحب والرجل وفي كل ما يمكن تتطرق إليه السينما. وهي بالطبع عندها ما تقوله عن المرأة. وهل يمكن للرجل، حتى وإن كان من وزن يوسف شاهين أو من وزن برغمان السويدي، وانطونيوني الإيطالي ورومير الفرنسي، أن يحكي عن المرأة أفضل من المرأة نفسها. أن يقول تفاصيل وجزئيات حياتها وأسرارها الوجدانية وخفايا مشاعرها وعذاباتها وتطلعاتها، كما يمكن للمرأة أن تفعل.
قد لا تختلف سينما النساء جملةً وتفصيلاً عن سينما الرجال، ولكنها حتماً تقول جديداً وبأشكال مختلفة. وهي، في ما تقوله وبالأشكال التي تتوصّل إليها، تغني السينما وتعطيها نكهة أخرى أكثر نضارة، وتضفي عليها طابعاً أكثر إنسانية. وكثيراً ما تعود بها إلى صفائها الأول لتقول أشياء صغيرة حميمة، بسيطة، ولكن كم هي إنسانية وعميقة وصادقة!